هيام علي الجاويش
اللوحة: الفنان الهولندي فينسنت فان خوخ
صديقي..
هل تذكر طوق الحمار.. لا بأس نتذكر معا
يحكى أن هنالك مزارعا، أراد أن يربط حماره ليلا عند عودته من الحقل. بحث عن حبل فلم يجد، ذهب لجاره يطلب حبلا، أعتذر الجار لعدم وجود حبل لديه إلا أنه قال قم بتحريك يديك حول رقبة الحمار فيتوهم أنك قمت بربطه. عند الصباح وجد المزارع حماره كما تركه، وعندما حاول اقتياده والذهاب به إلى الحقل، رفض الحمار أن يتحرك وكل محاولات المزارع لتحريك الحمار فشلت، ذهب الرجل الى جاره قائلا الحمار لا يتحرك فسأله الجار هل فككته؟ هو ما يزال متوهما أنه مربوط. ونحن أو معظمنا لا يعاني من قيد واحد إنما من قيود عدة منها ما هو حقيقي ولكن معظمها وهمي.
***
في حديقة السجن كانت جالسة على كرسي مزدوج إلى جانب طفلها الذي يعبث بحقيبة يدها والتي لا تحتوي الا على أشياء تخص الطفل، وعلبة محارم كبيرة لتمسح دموعها كلما فاضت وكأنها من نبع يأبى أن يجف. كانت تراقب الآخرين من موقعها، هنالك أربع نساء كل اثنتين دخلتا من جهة، بعد السلام فردن أشيائهن وتم تبادل بعضها، أذاً كما في الرحَل والفُسح كلُ يأتي بالذي يتوفر عنده ويتقاسمونه، ووضعن في كيس صغير بعض الفائض، وتساءلت.. لمن يكون هذا؟ ربما للحارس كي يسمح لهن بإدخال تلك الأشياء، إذاً الفساد منتشر حتى في المكان الذي يدّعي من أنشأه أنه عقاب للفاسدين، وعلى اليمين رجل وامرأه مسنان ربما دخلا بطريق الخطأ او ربما ليستريحا، لكن هل يوجد مجال للخطأ في مكان كهذا؟ فهذا ليس ممكنا، اذاً ربما ينتظران حفيدهما.. آه هنلك شخص مقبل عليهما وليس بشاب، انحنى وقبل يد المرأة وعانقها عناقاً حاراً، ليتسنى له شمّ رائحتها وليتسنى لها أن تمسح دمعتها بثيابه، ثم أقبل على الرجل فارداً ذراعيه وضمهما على ظهر الرجل ليقوى به ويقويه، فتيقنت أنهما أبويه. وفكرت ماذا فعل هذا الرجل؟ وما هو سر إقامته الطويلة؟ أين الزوجة والأولاد؟ أم أنهم غادروه، أو هو الذي غادرهم رغم قلة حيلته كما حدث معها، وما هو ذنبه؟ أيكون سب الآلهة؟ فالله غفور رحيم، ربما سب من جعل نفسه بمثابة الآلهة أو بعد الآلهة، ثم نظرت الى الجهة الأخرى والأخرى حالات تتشابه وحالات تتنافر، أما هي فحالتها تكاد تكون متفردة. اليوم فقط ستصبح مثل الآخرين ستستقبل سجينها رغما عنه وعن أبيه وأخيه، ولم تكن تعتقد أن نهاية بدايتهما ستكون بهذا الشكل.
***
النهاية هنا، لكن البداية كانت في الجامعة في كلية الصحافة، وقد تجمع لفيف من الطلبة الحائرين كل يحاول أن يتلمس طريقة بمفرده كي لا يبدو ساذجا بسؤاله. لوحات بأسماء الكليات وأرقام القاعات مرفقة بأسهم من تتبعها وصل إلى مبتغاه، ثم دخل وجلس وانتظر، الغريب أن الكراسي كانت بعضها أسود والأخر أبيض وكذلك الطاولات، بعد ساعة ونصف دخل الأستاذ المحاضر وعلى وجهه ابتسامة، أبتدأ الكلام.. صباح الخير، وتابع.. في نهاية هذه المحاضرة أود أن أقول لكم، وتوقف.. الطلبة دهشوا ونظروا إلى بعضهم البعض لكن لم يتكلموا. تابع المحاضر.. كثير من الطلبة المنتسبون لكلية الصحافة ما زالوا في الخارج فهم إما يلهون أو ينتظرون توجيهات، وكثير من الطلبة الذين دخلوا هذه القاعة عادوا وخرجوا منها إما بعد ربع ساعة أو نصف ساعة أو ربما أكثر أو أقل، أما أنتم الذين انتظرتم إلى الوقت المحدد لانتهاء المحاضرة ولو تأخرت أكثر لانتظرتم أكثر وكأنكم تقولون ليته يأتي. لقد تعلمتم بأنفسكم البحث، ببحثكم عن القاعة والصبر بانتظاركم لمن لا تعرفونه. وأنا أعتز بأن أكون مشرفا عليكم في مادة – التدريب والعمل الميداني- أما باقي المحاضرات فستكون مع كل طلاب كلية الصحافة. أنا وثقت بكم ويجب أن تثقوا بي، الذي أطلبه منكم هو أن تذهبوا إلى أماكن سكناكم إذا لم يكن لديكم محاضرات أخرى، دون أن يتحدث أحدكم مع آخر أو يتعرف بعضكم ببعض، وليفكر كل واحد منكم بالطريقة التي يحب أن يعرفنا بنفسه، أي لا أسماء ولا هوايات ولا معدلات ولا أماكن الإقامة، ولا أي شيء يخصكم كأفراد، باختصار التعريف يكون من خلال ثقافة وطموح كل واحد فيكم.. قصيدة، ملخص كتاب، مقال، خاطرة، فكرة. أي شيء في هذا المجال، أود أن أعرف ميول كل واحد منكم لأعمل على تقوية ميوله، ورفاقه سيعطونه علامة تكتب على لوح موجود مع قلم وممحاة على الطاولة التي أمام كل طالب. وخرج وعلى وجهه نفس الابتسامة. في اليوم التالي حضر الطلاب إلى القاعة فوجدوها مقفلة وفتشوا من جديد واهتدوا بسرعة إلى القاعة التي يجب أن يتواجدوا بها وأعدو أنفسهم للانتظار، إلاّ أن الأستاذ حضر بعد دقائق وربما هي خطته، كي لا يكون بين مجموعته طالب جديد ويضطر إلى الاعتذار منه وصرفه عندما يعرّف هذا الجديد بنفسه. وقال: لدي بطاقات بلونين الأبيض للإناث والأسود للذكور في كل منها مشبك، البطاقات تحتوي أعدادا وأرقاما، كل واحد منكم يختار عددا أو رقما سيمثله من الآن. وبعدها سنخرج إلى القاعة التي كانت مقفلة، وقد نظمت الكراسي على شكل صندوقين مفتوحين من الأمام بحيث يتسنى للجميع رؤية المنصة. والكراسي بلون البطاقات التي شبكت على صدور الطلبة، وتحمل نفس العدد أو الرقم، كل طالب يجلس على كرسيه المحدد خلف طاولته. وفعلاً هذا ما حدث. جلس الطلبة كما ذكر الأستاذ وعلى المنصة كان كرسي لونه رمادي وعليه بطاقة تحمل العدد صفر. فدخل الأستاذ بنفس الابتسامة وعلى صدره بطاقة تحمل العدد صفر وقال: أرحب بكم أنا العدد صفر أحدث فارقا أينما وجدت ولا أرضى لنفسي أن أكون الأخير، لوني رمادي ولا أتحيز. هيا لنرى العدد واحد، فصعد إلى المنصة شاب وفتاة وعرفوا بأنفسهم، وعند الانتهاء كتب بقية الطلبة تقييم الشاب والفتاة، ورفعت البطاقات ليرى الشاب والفتاة وليسجل الأستاذ هذه التقييمات، وكذلك العدد الثاني. وعندما حان دور العدد الثالث، خرج شاب وفتاة بنفس الطريقة، افسح الشاب المكان للفتاة كي تبدأ أولاً وعندما انتهت تقدم إلى المكان المخصص مفكراً.. هذا حسن سيكون لدي متسع من الوقت، واستلهم من الأستاذ ما قاله عن نفسه. وقال: أنا أول الأعداد الأولية لا عدد يقسمني ومن يأتي بعدي تقليد، لوني أسود وأفضله إذا كان حقيقي على اللون الأبيض أن كان تقليد. صمت قليلاً.. ما أقوله ينطبق على معظم العواصم العربية وأولها القدس وبغداد ودمشق وطرابلس.. نصب قامته ومد يده اليمنى وحركها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ثم مد يده اليسرى وحركها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وهو يقول أهلاً أهلاً أهلاً، ابتسم رفاقه وظنوا به يرحب بهم أما هي فقد جحظت عيناها. وقال: قال مظفر النواب:
أقسمت بأعناق أباريق الخمر وما في الكأس من السم
أقسمت بتاريخ الجوع ويوم السغبة
لن يبقى عربي واحد إن بقيت حالتنا هذي الحالة
القدس عروس عروبتكم، فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟؟
ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفا
وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض
أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة..
إلى أن أنهى القصيدة بابتسامة نصر، كتب رفاقه تقييمهم وكتبت هي تقييما منخفضاً. لأنه سرق قصيدتها، أما عندما جاء دورها العدد سبعة، قالت بهدوء: أنا.. أنا ولا أرضى أن أكون إلاّ أنا، صمتت ثم تابعت.. قرأت ذات يوم عبارة (في القلب شيء آخر)، وتساءلت ما الذي يمكن أن يكون في القلب غير الذي نعرف؟! الآن فقط أدركت انه شيء آخر، فرفعت غطاء الروح لأرى المنسوب، ولكي أزيده، تلصصت على عاشقين فقد كانت الريح تداعب الشجرة فتتمايل بعذوبة وحنان، تقترب الريح فتبتعد أغصان الشجرة، وتبتعد الريح فتقترب أغصان الشجرة، وعندما جن الهوى.. تعانقا، فتكسرت أغصان الشجرة، وكلما زاد العناق ازداد التكسير، رفعت غطاء الروح ووجدت المنسوب أقل، فأدركت أنه بعد كل عناق كسر، ها أنا أروي ما حدث كما حدث لكنهم يتهمونني بالكذب، قد أكون كاذبة، ربما إن رأيت ما لم يحدث وسمعت ما لم يُقل. أما هنا فأنا أقسم بأنني أروي الحقيقة كما رأيت وكما سمعت فهل أنا كاذبة. ورمقت الشاب بنظرة وقالت: هذه لي.. وكتب الطلبة تقييمهم وكان تقييم الشاب مرتفعاً، لأنها أعطته تقييماً منخفضاً.. أثناء الاستراحة حمل كأسين من الشاي وذهب إلى حيث كانت تجلس، تقدم منها وحياها، قالت: أهلا ماذا تريد؟ قال: أبحث عن وائل هل رأيت وائل؟ أجابت بطريقة جافة، لا لم أره ولا أعرفه نحن هنا أعداد، فرد عليها: لكنك لست عدد أنت أنا، آه كدت أنسى.. أنا وائل وهذه الكأس من الشاي لك، تبسمت وقالت: شكراً تفضل واجلس، وتوالت اللقاءات، ولم ينته العام إلا وقد سرق قلبها كما سرق قصيدتها، والآن سرق حياتها. وماذا بعد؟..