اللوحة: الفنان النمساوي ايغون شييل
محمد محمود غدية

جلس يتأمل غبش المصباح الشحيح الضوء، المشنوق بسقف غرفته، بطريقة تدعوه للخوف، وهو من دأب على تحصين نفسه طول الوقت، من أتفه الأمور وأقلها، خشية الموت، غير مدرك أن الموت يحصد كل من يخافه!
لذا قرر أن يؤجل البت في مسألة الموت حتى الأيام الأخيرة، حينها يكون الوقت قد تأخر على حلها، ويكون قد تأخر أيضا على الندم، فيأخذه الموت على حين غرة، كما أخذ الكثيرين من الأهل والأحباب والأصدقاء.
يتأمل نفسه في المرآة، الصورة لا تشبهه وقد زحف المشيب برأسه، والتجاعيد والحفر بوجهه،
تقدم به العمر وطاله العجز، وانطفئت لمعة العين التي أخفاها خلف عدسات نظارة طبية، أشبه بغبش المصابيح المدلاة في غرف المنزل والمطفأة.
تعثرت قدمه عند صعوده درجات سلم المنزل، كانت هناك سلمة مكسورة، لم يرها والمصباح مطفأ، أخذ يستغيث ويصرخ.. لم يسمع أحد صراخه الواهن، بعد ما حولته الشيخوخة إلى نفاية بائسة مهملة.
أين ذلك، وقت أن كان يصعد السلم ثلاث درجات في قفزة واحدة؟
ولأن العلاقة بين الخوف والموت علاقة متشابكة يصعب حلها، فعليه أن يسلم نفسه للموت دون مقاومة.
تذكر ما كتبه أحدهم على شاهد مقبرته: إلى من يقرؤنني الآن ويعيشون الجلبة والضوضاء والنفايات والأعاصير والحرائق والدمار والخراب، أنصحكم أن الراحة هنا ليست هناك.
يمشي في اللامكان حيث بيوت الأحياء القديمة، جدرانها من الجص والحجر، أكل الدهر عليها وشرب، ورسمت التشققات والملوحة على جدرانها الآيلة للسقوط، لوحات وخرائط وتضاريس، بلا معالم أو عنوان، يتناول وجبته اليومية من الأحزان المتضخمة والآمال الضامرة، تتداعى الصور ويتذكر زوجته التي كانت تعرف شفرة أحزانه، وتفك لغة صمته.
قبل أن تموت بقليل، طلبت من الممرضة مرآة وقلم شفاه أحمر وقالت: ليراني زوجي جميلة وغادرت.