عصر ذئبي جديد

عصر ذئبي جديد

اللوحة: الفنان الألماني بول كلي

سليم الشيخلي

لم تك حالة سعد بأحسن، بدأ يتأخر عن مدرسته وفي دراسته، لم يعد يفتح كتابه أو يمسك قلماً، زارني ابن جارنا وأخبرني أن مدير المدرسة يطلبني. قابلته بأوداجه الرومية المنتفخة وكرشه المتكور أمامه،  بعدما عرف من أكون بادرني قائلاً بلثغة لا تليق بمركزه أضاعت جمال اللغة العربية:

–  ابنك لا يصلح للبقاء في المدرسة، والأجدر أن تبحثي له عن أي عمل يتعلم منه ويستفيد إلا الدراسة.

–  ما الأمر يا سيدي؟ قلت مستغربة.

– بالرغم من رسوبه وعدم اهتمامه فإنه يهرب من المدرسة، وقد وجدت معه علبة سجائر، مشاكله مع الطلبة لا تنتهي ولا يمكن السكوت عنها، معاركه مستمرة، ضحاياه كثيرون، لا يتورع عن استخدام آلات حادة أو أي شيء يقع بين يديه، شرس وغير منضبط، ومعذرة أقول لك سأفصله إذا لم يلتزم بالسلوك الحسن والدراسة.

تراجعت إلى الوراء مترنحة، كالملاكم الذي يحشر في زاوية لتنهال عليه اللكمات وأنا أسمع هذا عن سعد الذي لا أشك في حبه للعب لكن لم أعهده شرساً وقابلاً للانفجار خارج البيت. استدركني المدير وطلب مني الجلوس على أقرب كرسي، دق جرساً ليطلب من الفراش أن يحضر الطالب سعد أمين من الصف الثاني «ج» وكأساً من الماء. بعد لحظات عاد ليخبرنا أنه لم يداوم هذا اليوم. إنها اللكمة القاتلة، لم أجد مخرجاً أداري به خيبتي إلا أن أجرجر خطواتي الثقيلة خارجة وأنا أتمتم.. إن شاء الله خير. ناسية أن أبلل ريقي ببعض من الماء..

لم يكن بيتنا بعيداً عن الشارع العام لكن الدرب امتد حتى الأفق، الجدران تدزني بسخرية وأشجار الأمل تتكسر أمامي فأسمع طرطقة أغصانها. ساقية المياه الآسنة سوط من الأمواج العاتية تلسع ظهري فاختلفت علي الدروب ليضيع البيت عن ناظري،وطيف سعد يخرج لي من كل مكان حولي، سكين تحت حزامه وبيده عصا، أطفال يركضون أمامه مثل الحملان المستفزة. إلى أين تأخذني عربة الأيام! ارحمني يا رب السماوات والأرض والأيام. متى أتخلص من العمل وفشلي في صنع مستقبل لأولادي؟ لا أعرف كيف وصلت إلى داري وكيف فتحت بابها، جلست على حصيرة قديمة واتكأت على عشتار الصامتة ومددت ساقي للبعيد.. بكيت الإخفاقات. الهزائم تضرب وجهي فأرى دمي النازل منه مكبلاً بالمجهول.

جاء سعد يحمل حقيبته المدرسية وقف قبالتي مشدوهاً وهو يرى غزارة دموعي.

–  من مات هذا اليوم؟

 ازداد نحيبيي وأنا أنظر إليه. تسمر مثل شجرة بلوط عتيقة، ضربت على كتفه، حاولت أن أصرخ فجاء الصوت كنعيق صدئ لميتجاوزنا.

– ماذا تفعل يا سعد! أرسمك قمراً فتهرب من المدرسة! أشقى لأجلك فتحمل سكيناً! أطأطئ رأسي لتدخن سجائر!

انفتحت حدقتاه أفقاً رمادياً وغبار الدهشة يتطاير من نظراته فلقد قبض عليه بالجرم الذي يحاول أن يخفيه داخل حقيبته المدرسية. لكنه استدرك بخبث أحسست منه أنه يسبق عمره بمسافة لم أحسبها جيداً.

–  من ملأ رأسك بهذه الأكاذيب؟

– أنا أكذب يا سعد! مدير المدرسة يكذب يا سعد! العالم كله يكذب وأنت الصادق الوحيد!

وبعد زفرة استطالت فعبثت في نجوم الظهيرة بكيت من جديد، كانت الدموع مطراً استوائياً يغسل ذاكرة الأرض البور. الأرض تدور تكنس ما يتساقط من تواريخنا في أجندة الأيام وقادمات لا يعلم سرها إلا الله. كم من الزمن مر والأمطار مازالت تتساقط لتبزغ من قطراتها الجافة صورة أبي حسين ونظرة عتاب تذكرني، تهز أمومتي بأنهم أمانة في عنقي.

 صغر حجمه وبدا طفلاً صغيراً يدافع عن نفسه، حيرته تبحث عن طوق نجاة، لكن الإدانة تحاصره فبدأ بفرك يديه بحيادية هادئة. هدأ شكله الجديد من ثورتي، تحركت قليلاً، أخذته بين يدي، نظرت إلى عينيه الذابلتين، فقالت له نظراتي الصارمة أحبك، أنت رجلي، ثم ضممته إلى صدري بينما راحت أناملي تعبث في شعره الخشن.

– افتح لي صدرك يا سعد، قل لأمك شيئاً يريحها، اعتبرني أحد أصدقائك في اللعب.

لم يتحرك، لم تنبس شفتاه ولو بهمهمة، حتى أنامله تحولت إلى قطع صخرية جامدة، أبعدته عني قليلاً، بدأت بمشروع ابتسامة ومعاهدة صلح أشرقت من خلف الدموع، تحرك الجبل أمامي فقال بصوت متهدج.

         –  لا أحب المدرسة

حمم تتساقط على رأسي لتكسر أحلاماً صغيرة تتناثر على الأرض كقطع كريستال، جرم خرج عن مساره فتفتت رغماً عنه. أين تلك الأماني في أن يصبح مهندساً أو دكتوراً أفخر به. أعلقه وساماً على صدر أيامي الثقيلة وعربوناً للحياة الجديدة. من جديد ترفع الأيام سيفها وكفنك يا أم سعد. لم يعبأ بالدوام، انتقل إلى عدة أعمال ولم يفلح في الاستمرار بأي واحدة منها. أصبح يسهر، يدخن علناً، يتحرك هنا وهناك، يرسم خطوطاً لحياتنا، يذهب إلى السوق لشراء حاجيات البيت متجاوزاً ما أطلبه منه، يحرك الأشياء من مكانها. أحسه يدفعني قليلاً ليحتل مكاناً يحشر به قامته. عاتبته مرة برفق عن عدم إكمال الدراسة مثل أقرانه.

–  أنا أستثمر وقتي في اتحاد الشباب العام.

–  وما هذا الاتحاد يا ترى.

–  منظمة شبابية نمارس فيها القراءة والرياضة وأشياء أخرى.

–  ألا يحثونك على الدوام والدراسة؟

– علاقتهم بالمدارس جيدة، وقد وعدوني أن يكلموا مدير المدرسة بشأن الدوام والامتحانات وسأعود للدراسة قريبا.                                           

–  وأنت فرح بذلك.

– هكذا تسير الأمور هذه الأيام يا أمي. سينجح أغبى الطلبة إذا انضم إلى الاتحاد.

 ونجح ذلك العام دون أن يداوم أو يذاكر فتذكرت أبا حسين وأحاديثه عن الرجل المناسب في المكان المناسب لبناء مجتمع نظيف بالحرية والسعادة. جلست أقص عليه ما يتوجب على الأم أن تقوله لكن أذنيه تسترت بأدوات عصر ذئبي جديد فلعنت الحرمان والزمن الذي يرسم دوائر صغيرة لا تكفي أن نعانق أولادنا


اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.