هيام علي الجاويش
اللوحة: الفنان الكندي تيم أوكامورا
صديقي…
تقول الأسطورة إن الله خلق الإنسان (الرجل والمرأة) في جسد واحد فكبر الإنسان وتكبّر حتى على خالقه إذ لم يعد بحاجة أحد حتى الإله الذي خلقه، فعمد الإله إلى شطر الإنسان نصفين.. (امرأة ورجل) وجعل كلٍّ منهما يبحث عن نصفه الآخر والذي قد يجده وعلى الأغلب لا يجده, فيرتبط بنصف غير نصفه, وهنا تخلق المفارقات المؤلمة. وإن كان الذي ارتبط به نصفه فعلاً أو لم يكن فأن كلاٌ منهما لا يستطيع الاستغناء عن الآخر والعيش بدونه. ويقول الله والشرع عن كلٍّ منهما (الرجل والمرأة) نصف الدين.
صديقي.. أمقت بساطة البسطاء كما أمقت قوة الأقوياء، وأكره ضعف الضعفاء ،وأحب قوة الضعفاء، وأحب ضعف الأقوياء. ربّما تكون مها قد أوحت إليّ بمثل هذا الكلام. من مها؟ سأكتفي بأنها أنثى, إذاً سأحدثك عن هذه الانثى ولأحدثك عنها يجب أن أبدأ بالحديث من عند زوجها. زوجها؟ لا أبدا فإذا قلت زوجها يكون هو تابع لها وهذا في الواقع غير صحيح.. إذاً عليّ أن أقول: يجب أن أبدأ الحديث عن الذي هي زوجته، وبهذا أكون قد وضعت الأمور في نصابها الحقيقي، أي هي التابع وليس كما يقول زوج الإلهة عشتار لعشتار.. لست زوجتي إنما أنا زوجك.. أنا بعلك عندما تشائين, وعشتار تتحدث عن نفسها.. أنا الأول وأنا الآخر، أنا البغي وأنا القديسة، أنا الزوجة وأنا العذراء، أنا الأم وأنا الابنة، أنا العاقر وكُثرٌ هم ابنائي، أنا في عرس كبير ولم أتخذ زوجاً، أنا القابلة ولم أنجب وأنا سلوة أتعاب حملي, أنا العروس وأنا العريس وزوجي مَنْ أنجبني, أنا أم أبي وأخت زوجي, وهو من نسلي, الويل لمن يهتك عرضي الويل لمن يسحب برقعي, الويل لمن يكشف عن وجهي, الويل.. والويل.. ها هو يا عشتار لقد سحب برقعك وهتك سترك وأكثر من ذلك بكثير، لقد كشف سرّك وسلاحك، وجعل سرّك سرّه, وحاربك بسلاحك.
لقد أختلف الزمان واختلفت معه الإلهة ويجب أن نُقر بذلك، لقد ناضل الرجال طيلة قرون.. واحتلوا الموقع الأول. والأهم من ذلك أنهم شرّعوا النظم والقوانين، بدءا من العرف الاجتماعي وصولاً إلى الحكم الديني بحيث تمكنوا من أن يبقوا في الصدارة متعللين بكلمتي عيب وحرام. والمرأة ساعدتهم بذلك إن كان برضاها أو بغيره. والآن عليها أن تتقبل كلُّ وأيُّ شيء وكأنه من المسلّمات إن كان برضاها أو عدمه.
***
ويخرج ذاك الإله الصغير من عند الآلهة الآخرين, بعد أن يكونوا قد سطّروا إنجازاتهم على طاولة لعب الورق وبعد أن ابتلعوا كل ما يستطيعون ابتلاعه من أدخنة ومشروبات و.. وفعل كل الأشياء المتاحة. وحتى نكون منصفين هو لم يكن سعيداً بما انجز ولم يكن هنيئا بما ابتلع. لكن هي ساعات هرب فيها من نفسه ومن مسؤولياته، وما أكثر تلك الساعات! لكن لا بدّ أن ينام الجميع حتى يعود للبيت، والآن لا بدّ أن الجميع نيام، ويخرج.. ميمماً وجهه شطر البيت، لكن ليس البيت العتيق، إنمّا بيتٌ يسميه الناس بيته. وفي الطريق يتحسس المفتاح الذي يرن في جيبه مع قطعة نقدية من فئة والخمسة والعشرين ليرة مفكّراً.. “بأنه بحاجة إلى قطعة نقدية أخرى من نفس الفئة ليتمكن من شراء علبة سجائر، وهذا أمرٌ يكفيه ليوم غد وبعدها فرج ورحمة, والحل موجود.. سيأخذ تلك الأموال من جزدان زوجته عند الصباح”.
وصل إلى البيت وسط الظلام وكان ضوء خفيف يتسرب من بين أوراق الشجرة التي تُظل الرصيف. أدخل المفتاح في ثقب الباب وأداره بهدوء, حتى لا يوقظ أحداً غير زوجته, والتي لا حرمة لها.. فهي أمَتهُ عندما يشاء وزوجته عندما يشاء, وهي آلهته ومعبودته وشريكته عندما يشاء وعبدّته عندما يشاء, بيت سّره وقت يريد وخزان غضبه وقت يريد. لكن في هذه اللحظة هي عشقه ومطلبه وغايته، ولا ننسى أن الجميع نيام. دخل إلى الداخل وخلع حذائه وجوربيه واندس إلى جانبها في الفراش محاولاً جذبها وايقاظها لعله يقوم بكل المتاح أيضاً, ويسطر ملحمة جديدة تضاف إلى ملاحم ليلته السابقة. تملمَلت محاولةً منعه لكن عبثاً. وعند تدحرج الكرة في أسفل الوادي والتي لا يمكن إيقافها.. فُتح الباب واجتاز المضافة أحد أشقائه والذي تأخر في سهرته على غير المعتاد, المضافة التي كانا ينامان فيها. وسبب نومهما في المضافة هو أنهما خرجا من القرية على إثر خلاف بين زوجته وأمه واستأجرا بيتا في المدينة، واضطرا للعودة للقرية بسبب ظروف تلك المدينة، والتي كانت تشهد أحداثا دامية قتل وخطف ودمار, وبالتالي شغل أحد أشقائه الغرفة التي كانا يسكناها. المهم.. اجتاز أحد أشقائه المضافة, راجعٌ من سهرته المتأخرة أكثر مما كان يظن، هو نكذب إن قلنا لم يتضايق, هو تضايق لكن لم يتوقف عند هذا الأمر كثيراً. اما هي فلم تبتلعها أرض ولم ترفعها سماء ولم تغف في تلك الليلة. استيقظ الزوج في الصباح وأشعل سيجارته الأخيرة فتح جزدان الزوجة ووجد قطعة ورقية من فئة الخمسين.. أخذها ودس مكانها قطعته النقدية الحجرية وبعث بها مع أخيه ليشتري له علبة سجائر، سحب كرسيه وجلس على الشرفة لعل أحد سكان البيت يريد أن يشرب شيئاً فيشاركه، مفكّراً في نفسه.. “لولا هذه الظروف لكنت الآن في بيتي.. تبّاً لهذه الظروف، ولولا هذا الزواج اللعين إذاً.. لكنت ملأت البيت صراخاً وسيحضرون كل شيء أن كان من أخوتي أو أخواتي أو وحتى أبي وأمي، سيوفرون كلّ ما أطلبه وحتى دون أن أطلبه ومع حبهم وودّهم لكن مع هذا الزواج.. بات لا يحق لي أيّ شيء. وليس كما يقال (سعرها بسعري)، بل (سعري بسعرها) وهي غريبة ودخيلة أو لنختصر القول هي كنّة، (وما في أبغض من الكنّة غير الكنّة.
مرّت زوجته من أمامه دون أن تقول” صباح الخير” كلّمها فلم تردّ عليه, وهنا نسيّ كلّ همومه وتبعها مسلّطاً الضوء على همه الوحيد: مَنْ تعتقد نفسها حتى تتجاهله؟ إذاً أهله معهم حقّ في أن يعاملوها كيف يشاؤون. فهي لا تعرف الأصول ولا تعرف الأدب ولا تعرف التعامل معه ولا مع الناس ولا مع اهله.. وهل أهله خدمٍ لها؟ وتعمّد أن يرفع صوته ليسمع جميع مَنْ في البيت، وهي لا تردّ لأنها تعرف في نهاية الأمر بأنها الخاسر الوحيد. لكن هذا لم ينفعها بشيء فبرميل البارود فُتح لتوه وكان سيشتعل بها أو بدونها ولحسن حظه أشتعل بها، وهذه النار لا يمكن إخمادها إلاّ بعد انتهاء البارود من البرميل. ولو لم يشتعل بها لكان اُضيف على البارود بارودا وسيتضخم البرميل حتى تسنح الظروف وتشعله هي, فكما قلنا هي خزان غضبه وقت يشاء. ويعلو صراخه فتجمعوا وتجمعنّ شماتة مظهرين الحزن والغرابة. وعندما حاولت الخروج والابتعاد عن ناظريه, هوت يده بصفعة على وجهها تلتها صفعة أخرى مُتّهِما إياها بقلة الأدب والتربية فكيف تسخّف وتتجاهل ما يقول. وهو يقول: مَنْ تعتقدين نفسك؟ وما هي الزيادة التي أختصك بها ربُّ العالمين، وأين كنت تخبئين كل هذا الحقد؟ وعندما همَّ بالصفعة الثالثة, نطق أخوه أحد المتفرجين بكلمتيّ “طوّل بالك” وسحبه إلى مكان آخر. فرّد عليه: “جنّنتني يا رجل والله جنّنتني وما في غير أمك, أختك, أخوك, مرت أخوك, اريد أ أعرف ماذا يفعلون لها؟ لكن ليس الحق عليها, الحق على الذي لم يسمع كلمة أهله، والله.. كنت أزعل لمّا كانوا يقولون لا خير لك بهذا الزواج. وتابع كلامه في نفسه “الآن حتى تدّخلت يا ابن القحبة والله حذاؤها أشرف منك ومن أهلك ” أما هي والتي لم تقو على الكلام في بدايته فلن تقوى عليه في نهايته, فانسحبت إلى الداخل متوارية عن أنظار الجميع.
دسّت بعض من ثيابها في كيس, وانتظرت حتى يبتعد أو يغيب, لأنها لا تجرؤ على مغادرة البيت بوجوده، فربّما أختلق لها مشكلة أخرى، مفكّرة في أسباب كرههم ومحاولة إذلالها بأيّ شكل وباحثةٌ عن طريقةٍ للتعامل معهم فهي لا تعرف كيفية التعامل مع كم الكره الذي يحملونه . فأن اندمجت معهم وتقرّبت منهم فهم لا يعيرونها بالاً ولا يستمعون لها, وقد يسخّفون ما تقول وقد يسخرون، وأن ابتعدت عنهم كانت فرصتهم أكبر للتعليق والتأليب والتنديد، وأحياناً يجري حديثهم على مسمع من زوجها فيشحن ضدّها.
في البارحة تداخلت الظروف ولم تُدخل شيئاً إلى جوفها وزجها شاطرهم جميع الوجبات, ولم يحدّثها كما لم تحدّث أحداً, ولم يهتم أحد لأمرها حتى هو. وتساءلت لماذا هي من بين كلّ عباد الله يحدث معها هذا؟ ولماذا بقدر ما يكون الحلم كبير تعاكسه الظروف بشكلٍ أكبر؟ وتنساب الدموع الحارقة من عينيها فتمسحها بكمها أو تلتقطها بلسانها, متذكّره.. بالرغم من أن دموع الحب كانت أكثر حرقة لكنها كانت دموع ذات مذاقٍ عذبٍ. إذاً هل لا بدّ من الدموع إن كانت من أجل الحب أو كانت على الحب؟ وهل صدقاً ما يقال بان الزواج مقبرة الحب؟ ولكن هل عليها أن تبقى بلا زواج للمحافظة على الحب؟ وما فائدة الحفاظ على هكذا شكلٍ للحب؟ أكل الرجال وكل الأزواج هكذا؟ لكن ألم يكن نابليون زوجاً ورجل حرب وهو الذي عندما عاد منتصراً من إحدى معاركه بعث برسالة إلى زوجته قبل وصوله قائلاً فيها: “حبيبتي جوزفين لا تستحمي فأنا قادم” وهو الذي قال: “إن المرأة التي تهزّ السرير بيّمينها تهزّ العالم بيسارها” أيكون هذا الرجل قد فهم المرأة أكثر من الآخرين؟ هل يملك نابليون قلباً أرق من قلوب العامة؟ أم أنه ليس بحاجة لانتصارات يخطها في مملكته؟ هنا ما إن يتزوج الرجل حتى ينسى كلمات الحب، ويستبدلها بطلبات الطعام والشراب ويحاول فرض رغباته وسلطته في مملكته فيدخل منتصراً ويخرج منتصراً، فقط في مملكته, حيث لا انتصارات خارجها, وكلما كَثُرت خيباته وانكساراته خارج المملكة عليه أن يعوضها داخلها. محولاً مملكته إلى حكومة خدمات بدون مقّومات إلا الضروريات.
الآن بعض ثيابها في الكيس والكرة كرتها, وإذا بدأت الكرة بالتدحرج قد لا تتوقف إلاّ في أسفل الوادي، والوادي في هذه الحالة سحيق ولا بدّ أنها ساقطة وراء الكرة, وقد لا تجد متبرعاً واحداً بفعلٍ أو بكلمة لإنقاذها., إذاً هي صاحبة المشكلة وقد خارت قواها, وهل تملك إلاّ الصبر وهي صبرت حتى ملّ الصبر من صبرها.. وصبرت على شيء أمر من الصبر, هذا الكلام من بيتي شعر كانت تتعلل بهما مردّدة: سأصبر حتى يمل الصبر من صبري… وفكّرت لو أن أحداً تدّخل وحاول منعها من مغادرة المنزل أو لو أن أحداً ما دخل ولامها على أفعالها, ليته يدخل هذا الأحد فقد تجد لنفسها عذراً على البقاء, عذراً أمامه وأمامهم وأمام نفسها. فهي لا تريد أن تنهزم وبهذه الطريقة.