هدى..

هدى..

اللوحة: الفنانة الأميركية كريستين كامبريا

سليم الشيخلي

جاءتني هدى ذات يوم فرحة وأخبرتني أن مديرة المدرسة طلبتها إلى غرفتها وسألتها عن الأسرة وأحوالها المالية وأشياء أخرى وبعد انتهاء المقابلة أعطتها خمسة دنانير كمساعدة للأسر المتعففة ووعدتها بإيجاد عمل لها في اتحاد النساء العام فرع مدينة الثورة القريب من البيت ولن يتعارض أبداً مع دوامها في المدرسة، من الثالثة حتى الخامسة عصراً، ومسحت على رأسها قائلة: والله كبرت يا هدى. مدت يدها إلي تناولني الدنانير الخمسة، أخذتها بابتسامة عمودية، ساعتان فقط! تستطيع هناك حل واجباتها المدرسية. أصبحت تجيء من المدرسة، تتغدى، ترتب نفسها، تأخذ بعضاً من كتبها المدرسية ثم تذهب إلى عملها الجديد وتعود فيالخامسة والربع لتساعدني في أعمال المنزل.

سألتها مرة:

– هل يزور الاتحاد رجال؟

– بعض الأحيان، يدخلون غرفة المديرة للاجتماع بها.

–  ومتى يخرجون؟

–  لا أعلم فأنا أجيء قبل خروجهم من غرفتها.

بدأ عودها يكبر وينشر أغصانه. قوام أسمر رشيق، نهد كحمائم المنازل يشق طريقه بعفويته. شيء من الحلاوة تجعل العيون تلاحقها مما جعل ذلك الخوف الغريزي يستيقظ في أعماقي والشرف عزيز، ألم يقولوا إن شرف البنت مثل عود الكبريت، بدأت تتأخر قليلاً، تصل البيت في السادسة والنصف، سأكلمها اليوم وقد أجبرها على ترك العمل لكنها سبقتني وأجبرتني على الركوع ناشدة الرحمة حين تأخرت عن المجيء. حدث ذلك ذات مساء قائظ جاءت المديرة وأخرى، أنزلوا هدى من سيارة وقفت عند باب الدار، ساعدتاها على السير حتى باحة المنزل بوجه أصفر وعيون ذابلة، جسد يتساقط التعب منه على الأرض فيزحف مثل الحشرات الهاربة.

– لا تقلقي أم هدى المسألة بسيطة. هبوط في الضغط، تحتاج إلى راحة فقط،  اتركيها تنام وسيكون كل شيء على ما يرام ثم استدارت لتلحق بزميلتها التي سبقتها عند الباب.

 عانقني الخوف فأحسست أن جبالاً من الجليد تتكسر حولي فيتناثر الصوت محركاً الأفق الصامت. هدى عروس السفائن، فلقة الرمان، رجع الصدى البريء، هدى المتفتحة بالصحة المفعمة بالحيوية الموزعة نشاطها للفراشات بابتسامتها التي تفتح ليبوابات ذكرى طفولتها وشبابيك الأمل تسقط هكذا صريعة الضغط أو شيءٍ آخر لا أعرفه!

نسيت أن أسأل المديرة أسئلة كثيرة حامت حول رأسي كالدمامل لأعرف أكثر عن حالها. تركتني مع الذبيحة وأسرع المغادرة،أوصلتها سريرها وتركتها تنام. مددت أناملي إلى جسدها لأتحقق من فكرة داهمتني فجأةً جعلت جسدي ينتفض، خوف بشكل سحابة سوداء كبيرة جعلني أسحب يدي بمهل. لم أصدق أي كلمة قالتها المديرة فأصبحت بالوناً يكبر كل لحظة ومع أية فكرة ومستعد للانفجار دون أي شرارة. خرجت أدور في باحة الدار تأخذني أمواج عاتية إلى صخور قاسية، متى يأتي هذا الصباح الذييختبئ خلف الأفق. قبل أن يجيء طرقت سعدية الباب كالعادة لنذهب إلى عملنا ولأول مرة أتعلل من خلف الباب بالمرض لتذهب وحدها. أحسست بأن خيوط الفجر سياط بركانية تزحف ببطء نحوي وخلفي جدار عال يمسكني لأواجه قدري دون أية مقاومة.

استيقظ حسين بهدوء ثم سعد بفوضوية تركها على فراشه، وبعد تناول الفطور خرجا وأنا في صراع من أجل أن أرسم الهدوء على وجهي. دخلت الغرفة، أيقظتها، ساعدتها في الوصول إلى حنفية الماء لغسل وجهها، أجلستها تحت عشتار فوق الحصيرة الصدئة.

– عندما يأتي أخواك سنأخذك إلى الطبيب لنرى مسألة الضغط. وبصعوبة فتحت عينيها ولملمت جسدها ورمته علي.

– “يمه” استري عليَّ الله يستر عليك. فسقطت جثة دون حراك.

 لم ألغ الأفكار المجنونة من رأسي وأنا أتصارع مع الأيام فلماذا يتناثر ما أحمل في صرتي من آمال هكذا في زحام المدينة وتحت نعالها. مر زمن حتى استعدت من المقدرة على معرفة أشياء حولي، أحسستها جنبي تمثالاً ينظر إلى تمثال منكفئ على الأرض. ساعدني يا أرحم الراحمين، كم من الصدمات أستطيع أن أتحمل، لو كنت بغلاً لانكسر ظهره ليطلقوا عليه رصاصة الرحمة، رفعت رأسي إلى عشتار فتساقطت منها أوراق من فئة خمسة دنانير تختفي عند ملامستها الأرض.. وهكذا ظلت تتساقط وتختفي إلى أن تحرك التمثال المنكفئ جنبي. إنه الطعم يا أم حسين وبه اصطادوا رنة البراري هدى وتركوا أبوابها دون قفل. إيه أيها الإله المعلق على شكل صور وتماثيل في كل مكان والمطل علينا كل لحظة. الإله الذي جاء على ظهر دبابة وسخة فأغرق المدينة بالأقزام ليسرقوا أحلام الناس البسيطة وليصبح السفلة من القوم سادة مطاعين وتمر سنابك خيولهم البربرية فوق جباهنا المتفصدة عرقاًوالمبللة بتاريخ طويل من الجروح. إنهم يغتالون التاريخ ويصنعون دمى تهزج بتاريخ وهمي

– كيف حدث ما حدث؟

– طلبت مني أقداح عصير لضيوف لديها،  وزعتها على الضيوف بارتباك وهم ينظرون إلي،  بعد دقائق دقت الجرس،  أخذت الصينية لأجمع الأقداح،  طلبت مني أن أشرب القدح الذي لم يلمسه أحد،  أفقت في عيادة طبيب وأنا بهذه الحال.

بكاؤها يعزف فوق الأرض مقطوعة انتهاك للإنسان المغلوب بالفقر. لا أدري ما العمل! ها هي ذي جبهة حارقة جديدة تفتح فاها نارياً نحوي ولا أجني سوى الخسران إن وقفت أمامها. لم أقدر أن أقف متفرجة وأنا أرى دمائي تتعطن. ذهبت إلى المديرة المحجبة،  قابلتني ببشاشة وابتسامة ماكرة وكوب من الشاي لم أمد يدي إليه. لم أستطع الصمت، النار تغلي فاختصرت الطريق عليها فقلت:

– كيف ترضين لبناتك الأمانة في عنقك أمام الله والمجتمع بمثل هذه الأفعال اللاأخلاقية. أن تكوني قوادة! سأقف في ديوان وزارة التربية وأفضح كل شيء، عليَّ وعلى السفلة أمثالك يا رب.

وقفت مرتجفة وقالت بفضاضة.

– اسمعي أم هدى. شيء حدث وانتهى وسأعمل لها عملية ترقيع تعيد لها شرفها، سأعطيك مبلغاً من المال وأنا رهن إشارتك فيأي خدمة تطلبينها، ولن أعيد كلامي مرة أخرى. إن فتحت فمك بأية كلمة في أي مكان سأقلب الدنيا على رأسك وعندي شهود بأنك ساومت وقبضت الثمن سلفاً.

 لم يكن صمتي خوفاً من تهديدها بل من يصدق براءة محتاجة للمال وخصمها القاضي والقانون، ألا يكون حرياً بمحامي الدفاع أنيطلب إعدامي بأسرع وقت لإراحتي من معركة خاسرة تمتد العمر كله أموت فيها بالتقسيط.

أوراق الأجندة لا تتوقف عن السقوط والساعة لا تقف عند حد في العراق، الأيام تدور والسنون تمضي تلف في طياتها صرخات مكبوتة لفقراء متعبين على رقعة شطرنج مكسورة. الصغار يكبرون،  وكما وعدت مديرة المدرسة أجهضت هدى في بواكير الحمل ورقع لها شرفها ليصبح شرف البنت مثل الولاعة عند طبيب خاص لمثل هذه الحالات، اشترط أن يأخذ ثمنين: الأول مدفوع من هدى كي لا تكبر دائرة الفضيحة ويدخل اسم اتحاد النساء في دوائر شك وسخة والثاني من خلف ستائر سميكة، أجبرت هدى على ترك المدرسة وقبعت تتعلم أمور المنزل وعلى وجهها كآبة تخلصت منها بعد محطات قليلة من حياتها.

المدينة تكبر ويكبر معها الحزب، الأقزام، السجون. ثراء مفاجئ يتساقط مثل المطر فوق بيوت المقربين من السلطة، فئة قليلة تملك القوة والمال لتصبح شعب الله المختار وسواد الناس يصبح شعب الله المحتار مما حدا بأذلاء سكارى أن ينزعوا ملابسهم الخارجية ليبقوا بالأبيض الشفاف ويطوفوا حول جدارية كبيرة للرئيس مرددين ” لبيك اللهم لبيك ” ولم يعرف مصيرهم لحد الآن رغم تدخل أقاربهم المتنفذين في السلطة والذين أوصوا بأن يوقفوا جهودهم في البحث. أحس بعض الأحيان في داخلنا القاتل وعلى وجوهنا القتيل لنكمل دورة العنف التي طبعت هذا المكان من العالم لتختلط أوراق لعبة الحياة فتهنا في دهاليزها من أبواب الأسطورة حتى ماسورة الرشاش.


عصر ذئبي جديد

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.