اللوحة: الفنان السوري عادل داود كردي
أسرعتُ هرولة فالوقت ضيق، قرآن الجمعة على وشك، الطريق مزدحم في، المبيضة، في مثل هذا الوقت من كل أسبوع. ركنت سيارتي بزقاق جانبي متفرع من، الشيخ سالم، أعرف الطريق جيدًا فلكم مررت به صغيرًا، أعشق المشي بين دروبه وحواريه منذ أن شببت عن الطوق.
لافتة خشبية متهالكة معلّقة على عامود إنارة قديم، تحتها يجلس الابن الأكبر لصانع المفاتيح الشهير، شيخ في بدايات عقده الثامن برشاقة صبي، أمامه مكتب صغير، مبارد، مفكات، شاكوش صغير وجواره واحد أكبر، وأدوات أخرى لا أعرفها.
اقتربت منه، حييّته، ردّ بإيماءة من رأسه، كوب الشاي في يده، وعينيه تتّبعان أربعينية تهتز بشدة في مشيتها، تكاد تعصف باللافتة فوق رأسي، ثم التفتَ إليّ، قال بجفاء: خير؟
ناولته قفلًا صدئًا، أخذه، أداره بين يديه، مصمص شفتيه والامتعاض على وجهه، قال: قديم، لا فائدة منه، يكلّفك الكثير إن أردتَ أن أصنع لك نسخة لمفتاح جديد له، الاجدى أن تشتري قفلًا حديثًا وما أكثرها الآن.
قلت: لا
- مش فاهم؟،امال انت جايبه ليه؟
قلت وأنا ألطّف من لهجة حديثي إليه: أرغب أن تمنع الغير، أي أحد أن يفتحه، أعلم أنك الوريث الباقي على قيد الحياة لهذه المهنة، خير من يؤدي هذه المهمة، لذلك أرجو أن تضع خبرتك، سحرك، غموضك كله في هذه الشغلة، اجعله يستعصى على الفتح ما حييت أنا، فهل تقدر؟
- مسح الشيخ الزقاق بعينيه، لعله كان يبحث عن أثر للمرأة، ثم شفط أخر جرعة في الكوب الزجاجي، هزه قليلًا ثم رمى بالتفل في نهر الطريق، تمخط، سعل، حدجني بنظرة ملتهبة، قال: ولا حتى أنا؟
قلت: لست أفهم!
- حتى أنا لا تريدني أن أفتحه مستقبلًا، سواء أتيتني به أو مع أحد غيرك؟
قلت: بخاصة أنت أو أي من أهلك أو تلاميذك.
- اتفقنا، غير أن الثمن سيكون باهظًا.
قلت: لك ما تشاء، لن أفاوضك على السعر.
- يستغرق وقتًا طويلًا، سأعود لكتب آبائي وأجدادي، مهمة ثقيلة يا ولدي، لم أقابل زبونًا مثلك من قبل، الجميع يرغب في فتح الأقفال المغلقة!
قلت: أتيت لسيد هذه المهنة، جئت لمن يقدر عليها، لا أحد غيرك أستأمنه على ذلك.
ضحك، بخبث قال: عد بعد ثلاثة أيام.
- بل أعود إليك اليوم، بعد صلاة الجمعة، قبيل آذان العصر، هذه مهلة كافية وتزيد لأحد الآلهة القدامى هنا، لوّحت بيدي في حركة دائرية.
بلهجة خشنة، قال: عنادك غريب لم أره في أحد من قبل، غير أن ثناءك يطربني، الثمن يرتفع أضعافًا مضاعفة، موافق؟
- قلت لك من قبل، لن أساومك على أجرتك، فلا تضيّع الوقت.
تركته والرجل يقلّب القفل في يديه، يخترقه ببصره الحاد، يتشممه بأنف صقر عجوز، يلحسه بلسانه بنهم كأنما يتذوق خمرًا معتقة.. بينما على مقربة يرتفع صوت، الشيخ حسين الضرير، نديًّا بفاتحة الكتاب.
