هبة الأغا
اللوحة: الفنان الفلسطيني أحمد الدعالسة
هكذا قدمنا على نفسه صديقاً نازحاً وجدنا ونحن نبحث عن مكان ننزح إليه بعد انتظار يوم طويل في الشارع، الدعوة نفسها والترحيب نفسه، لصاحب بيت تركه وهو لا يعلم عنه شيئا، والآن يدعوك إلى خيمته الصغيرة في إحدى بقاع النزوح المنتشرة، والخيمة لا تتسع إلا لشخصين فقط.
غصة في القلب، وكابوس لا يحتمله عقل، البيوت التي تركناها خلفنا ليست جدرانا عادية، إنها من أجساد العائلة ومن لحمها، ومن ذاكرتها، من غضبها، ومن فرحها، البيوت هي رجل وامرأة وأولاد، شكل العائلة في صورة جماعية على الحائط.
البيوت مؤخرا نامت فوق بعضها، لا أبواب ولا شبابيك، لا أحضان ولا وداعات أمام البيت، لا قواوير ورد ولا أشجار، حتى الطريق المعبد الذي يجعل البيت أكثر أناقة، ضاعت ملامحه، والبيت الذي يسكن وسط حديقة، دفنوه بداخلها.
لم يتبق من العائلات في البيوت الكثير، رائحة حفيد، عمة واحدة، نصف خالة، بقايا جدة، الحرب أخذتهم جميعا بمن فيهم الجيران، وأبقت شاهدا يلحق بهم فيما بعد كمد وشوق.
لا يوجد أرامل في الحقيقة، ولا أمهات شهداء، هذه موضة قديمة في غزة، اليوم نحن نرثي العائلة بأكملها، نراجع السجل المدني، ونضع فوق أسماء العائلة ظلالا حمراء، ونقطة سوداء لتاريخ الإنسانية.
وحتى الذين عاشوا وتركوا البيت، رحلوا إلى المجهول، إلى البرد والصقيع، إلى غربة مشحونة بالشجن والبكاء، صرنا نازحين في الإعلام وبين أهل المدن المستضيفة، وصرنا حملا ثقيلا فوق كاهل هذا الوطن المكلوم، تركنا في البيت أرواحنا وغادرنا.
كيف يقضي البيت وقته من دوننا؟ هل يفتقد إلى أصواتنا، حركاتنا، عراكات الصغار التي لا تنتهي، استسلامنا البطيء للنوم في نهاية اليوم، بالمناسبة، كنت أبحث عن البطء دائما، لكن الحياة كانت تزيد سرعتي رغما عني، كنت أنشد اللحظات البطيئة كي أحيا وأحتفظ بكل لحظة تشعرني بالامتنان، حتى فنجان القهوة الذي كان بالنسبة لنا شيء موجود بكثرة، كنت أشربه وأنا في قمة الامتنان وببطء أيضا.
لقد تغيرت المذاقات الأصلية، قهوة النزوح مختلفة مثلا، مليئة بالنكهات الغريبة، وغالية الثمن أيضا، قبل أن تشتد الأزمات خبأنا كثيرا من القهوة، لكنها نفدت، الحرب طالت والانتظار يحتاج إلى الكثير من القهوة، الانتظار يحتاج إلى الكثير من الصبر أيضا.
على سيرة المذاقات الأصلية، فلا شيء يشبه ما اعتدناه، حتى الأطباق تغيرت، النكهات ناقصة وفارغة، اختفت الألفة بيننا وبين المائدة، لكننا حين نأكل نستحضر البيت، ندعوه ليتناول أطباق النزوح معنا، فيصير البيت نازحا أيضا، لقد انتظرنا كثيرا، وحين تأخرنا نزح إلى الجنوب من خلال الممر الآمن.
“السلامة غنيمة” هكذا نختم كل حديث عن البيت، وكأننا فعلا في أمان من القصف، أنت في كل لحظة تنتظر دورك إما في بيتك، أو في الطريق إليه، أو في المكان الذي نزحت إليه، كل البقاع تحت القصف يا عزيزي، والأرواح لا أمان لها إلا في وجه الكريم.
عن «حكايا غزة»