اللوحة: الفنان الأميركي ماكس جينسبورج
شهربان معدّي

كان في حالة نفسية سيئة بل سيئة جدًا، بعد المَشّادة الكلامية التي اشتعلت بينه وبين رب عمله! قبض على المُكنسة الفارعة الطول وهو يُتمّتم بصوت خفيض:
– أنا مُجرّد عامل نظافة.. عامل نظافة! من يكّترث لأمري.. أو يهمّهُ مصير أولادي وما أُعانيه في هذه الحياة القاسية! أليس لدي مشاعري ولديّ كرامتي..؟ ما باله صاحب هذا الكراج المنحوس، ينفُضني كسجادة مُهترئة كلما أغاظه أحد زبائنه؟
لم يعد بوسعي أن احتمله واستسيغ كلماته النابية.. تبًا للحاجة والفاقة الّلذان أجبروني على تحمل كل هذا ال..
ولكن ما يجبرنا تحمّل المُرّ إلاّ الأشد مرارة منهُ!
حنانيك يا رباه ألا يكفيني زوجتي السليطة اللسان وأولادي الخمسة الذين لا يرحمون! وشرنقة الفقر التي حُشرت بها مذ نعومة أظافري..
وتذكّر أنهُ كان طالبا موهوبا في الابتدائية، وإن لم يكن الأول في الصف، ولطالما لقّبته إحدى مُعلماته بالأرمنيّ لتعدد مواهبه! ولكن هذا الفقر المُدقع وقلة الحظ! شتتا مواهبه بل قتلا فيه روح الإبداع وسلبَاه.. كل الأجندة التي كان يُريد أن يُسَخّرَها لمصلَحَتِهِ الشخصية أو للمصلحة العامة! ليته يحظى يومًا ما بحفنة حظ حتى ولو كانت بحجم حفنة ابنه الصغير، لربما ستتغير خارطة حياته البائسة إلى الأفضل.. وربما..؟ ستزغرد على تضاريسها أهازيج الفرح الأخضر!
كان الضُحى يتجوّل في تلك المَدينة الكبيرة عندما أخذت عين الشمس الحارقة مأخذَها من هذا العامل المسكين.. الذي أفرغ كل ما تبَقّى من قنينة الماء الفاترة التي بحوزتِهِ ليرطّب جَوفِهِ الجاف، استدار ليرميها في حاوية النِفايات القريبة منهُ وكاد ألق عينيه يسقط على الرصيف عندما رآها مُستلقية هُناك!
لم تَكُن كَبيرة ولكنها كانت محفظة رجّالية جَديدة ومُكتَنزة؛ بل سمينة جداً حتى أنهُ خُيّلَ إليّهِ أن الأوراق النقدية تكاد أن تقفز مِنها.. وبحركةٍ لا شعورية انحنى بسرعة البرق والتقطها بخفّة ودسّها بجيب بنطاله الخلفية، وعاد يتأبط المكنسة الفارعة الطول وتابع عمله مُتظاهرًا بأن ثمة شيئا لم يحدث، وكان يشعر بتخمة السعادة تغمره من رأسه حتى أخمص قدميه!
– يا الله يا كريم وأَخيرًا حَظيت بحفنة حظ! أليست هذه المحفظة لقيا..؟ ولقيا الله حَسَنة!
أخيرا.. سيُمزق شرنقة الفقر ويودعها للأبد..
– ولكنك يا رجل لم تُطعم أولادك مالاً حرامًا قط؟ وأَكيد لن تَجرؤ على هذا الآن أليس كذلك؟
– ولكن قد يسأل أَحَدَهم عنّها وقد يسأَلك صاحب الكَراج، ماذا ستُجيبه هيا أخبرني؟
– سأجيب بكل هدوء وشجاعة إنّها لقيا.. ولقيا الله حسنة!
– ألا تخجل من نفسك، وأنت الرَجُل الشَريف الذي دأب كُلَّ حَياته أن يُطعم أولاده لُقمة الحَلال، تتجاسر أن تُطعمهم الحرام!؟ هيا..؟ اذهب لصاحب الكراج وأعِدها إلَيه!
– تبًّا! قط لن أُعيدها إليّه ولا حتى لِأصحابها؛ بعد أن لدغني ناب الفُقر وبعثر أحلامي.. تتوقع منّي أن أعيدها..؟ أليس المال سادن الرجل وصولجانه في هذا المُجتمع المادي المحض! يرفع الغنيّ ويُقَويه ويَذِل الفقير ويُضعِفهُ..
– ولكن زوجَتك! هل سَتُوافق زوجتك بأن تُطعم أولادك من غير عرق جَبينك؟
– بالله عليك يا رَجُل لقد نَفَذ صبري من سَذاجَتك! أنسيت سُخريتها مني عندما أخبَرتها يوما، ان لُقمة الحلال المغموسة بعرق الجبين لهي أطيب من العَسل وكيف انتهرتني كطفلٍ صغير مُعلنةً أنه سيّان عندها إن غُمِست بعرق الجبين أو الكوكا كولا!
ما تقوله زوجتي هو عين الصَواب، أنظر لصديقي فلان كيفما يسقط، يسقط واقفا على قدميه، وثمة أحدهم لا تعنيه نزاهة أمواله الطائلة، نحن يا سيّدي في زمن الطاقات لا الشعارات..
وغدا يجب أن أدفع فاتورة الكهرباء وفاتورة الماء ويجب أن أجلب للصغير وصفة الطبيب، والحَفّاظات والحليب..
هذه المحفظة أصبحت مُلكي.. مُلكي “أنا” وهيَ لقيا.. ألا تفهم؟ هي لقيا.. ولقيا الله حسنة!
كان يصوغ عناقيد الأمل في طريق عودته لبيته وشعر أن قلبه يتدحرج أمامه ليسبقه لزوجته وأولاده الذين سيُعوضهم إن شاء الله عن كل هذه السنين العِجاف التي كابدوا.. وهو يشعُر بمُنتهى القُوة بعد هذه اللقيا الدسمة، صحيح أن “بيت عنكبوت كثير على اللّي بموت” وصحيح أن وجنات أولاده الكرزية تُضاهي مال قارون، ولكن المال يعني القوة والنفوذ والازدهار، ولا يُقارن بالفقر الذي يعني أن تكون تابعا لا متبوعا خادمًا لا مخدومًا.. الفقر اللعين الذي يقيّدنا بسلاسل الضعف والعبودية.. وهذا المال سيُعيد له رجولته المُتعفنة التي سلبته إياها زوجته السليطة اللسان، وربما سيردم الهوة ويرأب الصدع الذي حفره الفقر بينهما، بكفيه الخشنتين!
غدا يوم إجازته وغدا سيصطحبها مع الأولاد للمُجمّع الكبير في المدينة.. وهُناك.. بجولة واحدة..؟ سيرد الصاع صاعين من قريبات زوجته وجاراتِها اللئيمات اللواتي يؤججن صدرها بالأماني الباطلة، والأحلام المُزيّفة ويسكبن الزيت على النار! تبًّا لمعشر النساء! لا يُقدّرن الرجل إلاّ من خلال حجمَ محِفظتِه.. وهو حتما لا يُريد أن يضع عقله في عقل هؤلاء النسوة السطحيات، ولكنه سيحاول استعادة كبريائه المجروحة..
وغدا سيأخذها والأولاد للمطعم الفاخر في الطابق العلوي والذي يطل على البحر، لطالما تاقت نفسه أن يجلس هناك ساعة من الزمن برفقة عائلته الغالية، وسيطلب لهم كلَّ ما يشتهون من طعوم وسلطات ولن ينسى التحلية من الكونديتوريا الفخمة المُقابلة للمطعم، وسيطلب من زوجته بأن تُوثّق كل شيء، نعم..! كلّ شيء.. حتى أدقّ التفاصيل، وترسلها لقريباتها وجاراتها لكي يثبت لهن أنه بمقدوره ان يضع حاتم الطائي بجيبه الصغير طالما معه نقودًا..
وسيمُرُّ بالسّوق الشّعبية ليشتري لهم السمك الطازج والموز والتُفاح دون أن يسأل عن السعر! وسيقول لأولاده: اشتروا ما تشتهيه عيونكم أيها الأُمراء الصِغار، طالما أنا حيٌ أُرزق..؟ لن أقبل أن ينقُصَكُم شيئاً! وطالما هذه المحفظة في حوزتي.. سأشتري لكم كُلَّ شيء، النقود تفعل السّحر أليس كذلك؟ املئوا السوق بالضجيج! ثمة بائع لن يجرؤ على انتهاركم بعد اليوم طالما محفظتي مليئة بالنقود..
عندما وصل لبيته الحبيب في آخر الزقاق، دلف إلى غُرفة نومه دون أن تشعر زوجته بقدومه، ومن قال إنه يهمها حضوره أو عدمه! وفي كل الأحوال هو لا ينوي أن يخبرها بأمر المحفظة، بل سيحتفظ بسرّه في صندوق أسراره الكبير الذي يخبئ فيه الكثير من الأحلام والأسرار والتي لا تعرف زوجته المنكودة عنها شيئا..
مَدَّ يده المُرتجفة لجيبه الخلفي، كانت ما زالت هُناك تنتظره.. أخرجها بهدوء وتأَملها مليًا وكأنه يُخاطِبُها بمُقلَتيهِ المُتعبتين:
– أين كُنت كل هذه السنوات التي أكلت عُمري..؟
فتَحها ببطء ولكن سُرعان ما شَعَر بِبُركان من السخط والقهر يغلي في أحشائه.. عندما أكتشف أنه حُشِرَ بهذه المحفظة السمينة رزمتان من المناديل الوَرقية الناعمة وبطاقة مدرسية.. عليها صورة صبيّ لم يتجاوز المرحلة الإعدادية!
أغلقها بِبرود تام وبلع ريقهُ بِمَرارة.. هو في الأساس لم ينوِ أن يطعم أولاده من مال حرام، ولم يتأسف لأنه لم يجد بها نقودًا، ولطالما حاول إقناع نفسه إنه غني النفس بالكفاف فأن طَمعَتْ..؟ جميع ما في الأرض لن يكفيها..! ولم يعتب على فُسحة الأمل التي رزمت حَقائبها ورحلت.. ولكنه عتَب كثير العَتَبَ على سهم الحظ الذي كان يزوغ عَنه طيلة الوقت، ولكن هذه المرة أصابَ مِنه المَقتل..