اللوحة: الفنان المصري شوقي زغلول
سليم الشيخلي

حييت سفحك عن بعد فحييني
يا دجلة الخير يا أم البساتين
“الجواهري“
باص متعب يدلي رقبته نحو الأرض يلفظ المسافرين واحداً بعد الآخر، حقيبة صغيرة تهتز على كتفي تحمل كل ممتلكاتي وأول قدم أطبعها على الأرض تترنح الثانية بعدها بخدر في زحمة تلفنا عند الباب فتتشابك أجسادنا المتعبة بمستقبلين من طراز آخر في الساحة الهاشمية عند الساعة الثانية والنصف ظهراً.
– عندك سجائر للبيع؟
سؤال تسمعه من أولئك المتجمهرين عند الباب.
– بكم تشتري الكروز؟
– خمسة دنانير…. كم كروز عندك؟
تركته لأجرجر قدمي وفي رأسي أول معلومة أسجلها عن أسعار السجائر. المكان نظيف وجميل وفيه متسع للحياة، وادٍ كبير تحيط به جبال زرعت عليها بيوت فوق بيوت، مقاهي، محلات، مطاعم، باعة متجولون. كل شيء بدا غريباً وجديداً بالنسبة لي. سرت قليلاً لأجلس على دكة أمامها ساحة مبلطة وفي طرفها ساعة عالية. أطفال يلعبون بالكرة. على اليسار بناء قديم ذو مدرجات عالية وجدران عريضة. توجهت إليها لأنزل بضع درجات وأطل على حديقة صغيرة مرتبة ازدحمت أرائكها بالمتشمسين. سرت قليلاً إلى الأمام لأطأ أحجار الشارع الروماني القديم ما بين الحديقة والمسرح الروماني. شممت رائحة التاريخ تنبعث من الحجارة الواقفة بشموخ أبدي. أمعنت بالسير قدماً لأصعد إلى شارع تجاري مزدحم بالبضائع والمارة. توقفت عند باب صغير لأشرب كأساً من الشاي.. دفء يقفز داخلي يشاغل الإحساس بالخوف والرهبة مما سيحدث، عدت في الاتجاه المعاكس لأجد نفسي من جديد فيالساحة الهاشمية وعيناي مفتوحتان ترصدان كل شيء ببطء. سأكتشف بهدوء الأشياء حولي وبطريقتي، لقد عدوت بكل طاقتي ففقدت ثلاثة رجال، كان مجرد بقاء واحد منهم يجعلني أتلذذ بدفء بيتي وظل عشتار. سأصبر من جديد وأروض ما استطعت كي أتآلف مع المدينة الجديدة.
موقف كبير لسيارات باللون الأبيض والناس تقف طوابير فتدخلها، صعدت الرصيف بين الموقف والشارع العام فبدت لي غابة من العباءات السوداء،الماجدات في خط طويل يفترشن الأرض ويبعن السجائر. اللعنة دفعت بنا إلى أرصفة باردة نبحث عن خبز نظيف. سرت ببطء أتطلع إلى وجوههن المتطلعة إلى المارين عسى أن تسأل عن سجائر. شدني وجه مبتسم لامرأة تختلف في هيئتها الجميلة وملابسها عن الأخريات، نظرت إليها، نظرت إليّوفتحت عينيها شراعين محلقين يقولان “هلا“. تعمدت أن أقف قربها لأبتسم وأترك مساحة من الراحة تنفرج أساريري بها، فسرى دفء في داخليغطى على الإحساس بالرهبة والخوف.
– أهلاً أختي، تفضّلي، اجلسي هنا.
– أهلاً بك.
– استريحي هنا. ودفعت بسطتها جانباً وأجلستني بنظراتها الآمنة.
– أعتقد أنك قادمة من العراق تواً.
– كيف عرفت؟
– التعب منثور على وجهك كالتراب. ألا ترينه يتساقط على الأرض.
– لم أنم ليلة أمس، السيارة مزعجة، وما زال ضجيجها يملأ رأسي.
– ارتاحي، اعتبريني أختك. كيف أخبار العراق؟
– جيدة والحمد لله. قلتها بخوف غريزي.
– الحمد لله، ما اسمك؟
– أم حسين.
– أنا أم محمد. قالتها بعذوبة ومرح جعلت التفاؤل يزيح مواقع التشنج داخل روحي، ثم أضافت:
– لماذا أتيت إلى عمان؟
– لأعمل.
ثم أطرقت برأسي إلى الأرض. كيف تكون الأمور جيدة وأتركها لأجيء هنا. بعد لحظة قاتلة قررت الاستسلام فليس بعد الحقيقة إلا الهلاك.
– إنه الجوع يا أختي حملني من داري، باعدني عن فلذات كبدي ودفعني الى مزاحمتكم.
– بسيطة. قالتها وهي ترتب السجائر فوق البسطة. سأرتب لك مكاناً هنا جنبي. هل معك سجائر؟
– أربعة كروزات.
– أخرجي كروزاً وافتحيه وضعيه أمامك.
– وبكم أبيع العلبة؟
– بستمائة فلس.
ساعدتني في بيع كل سجائري، كانت ترسل زبائنها إلي.
– هل لديك أشياء أخرى؟
– أربع ساعات.
التفتت إلى الخلف وصاحت: جاسم
– ذهب إلى البريد ليكلم أقاربه في السعودية وسيعود بعد قليل.
– أرسله إلي عندما يعود. ثم التفتت إلي. اجلسي في مكاني سأعود بعد قليل.
بعد قليل عادت ومعها رغيفان من الخبز، حبات فلافل، قليل من السلطة وفردتها على نصف جريدة. شاركتها لأنني كنت جائعة ولأبرهن لها على تقديريوإحساسي بأنها قريبة مني. جاء جاسم ورأى الساعات هز رأسه قائلا:
– عشرة دنانير لكل ساعة على أقل تقدير. ابدئي مع المشتري بخمسة عشر ديناراً. وضعت ساعتين على علبة كرتون وبعد لحظات وضعت الأخريين، لم تمضِ إلا فترة قليلة وانتهى كل شيء وفي لحظات أصبحت لدي عملة تفرجت عليها طويلا لنتعارف.
– الآن، ماذا عندك من جديد؟
– لا شيء.
– خذي سجائر من جاسم وضعيها أمامك.
– أحس بالتعب الشديد وحاجة للراحة.
– صحيح لكن ماذا ستفعلين؟
– سأبحث عن فندق رخيص لأنام.
– ولماذا الفندق. اسكني معي، صحيح أنها غرفة صغيرة لكنها تتسع لاثنتين.
– لا أريد أن أكون ثقيلة عليك. يكفي ما قمت به من معروف.
– أي معروف يا بنت الحلال. إيجار الغرفة عشرة دنانير، نتقاسمها وكذلك الأكل والشرب وأوفر قليلا لنفسي.
أحسست أن رحمة الله تشع من بين أنامل هذه المرأة. لاحت لي كفة ميزان الأيام القادمة، فلم أجد أحسن من هذا العرض السريع والمغري فالباب المفتوح أمامي يطل على الأشياء التي أحتاجها ويفسرها ببساطة.
– على خير.
قلتها وأنا أحس جميل طوقها، ابتسامتها تنثر أريجاً حولنا. لقد انحلت فجأة مشكلة العمل والسكن. الغرباء أقارب، فكيف وهم من نفس الأرض الملتهبة وعلى جلودهم بقع زرقاء وفي الداخل نفس الغبار والعتاب. أحس أن برقاً لمع خلف أفق الذاكرة ليسقط جزءاً من أدران عتيقة التصقت عليها. لملمت حوائجها وقالت:
– هيا بنا. البيت ليس بعيداً.
بعد أن عبرنا الساحة الهاشمية دخلنا شارعاً عريضاً.
– هذا شارع اسمه سقف السيل والبيت في الدخلة الثانية على اليسار، صحيح أنه صغير لكني أحس داخله بالأمان. غداً سأعرفك بموزعي السجائر،سيعطونك بضاعة تسددين ثمنها بعد بيعها وقد نشتري البضاعة من قادمين من العراق بسعر أرخص قليلاً.
أبواب المدينة المسحورة تفتح أمامي دون عناء لكن لابد من أن أكون حذرة فالسياط تهدأ لحظات عندما يتعب حاملها، سأكون قليلة الكلام، لن أبدي رأياًوبخيلة حتى مع نفسي لأوفر لأطفالي لقمة طيبة ولأعرف ما يهمني سألتها:
– كيف الأكل هنا.
– لا تشغلي بالك، بسيط ورخيص، لبنة، زعتر، فلافل وفي العشاء نشتري قنينة سفن آب لنهضم الأكل بسرعة. ثم ضحكت وكأنها تروي نكتة فابتسمت مجاملة على “لبنة وزعتر“.
دلفنا يساراً وبدأنا نصعد سلالم حجرية قديمة محفورة في صدر الجبل الذي يحتضن البيوت، السلالم والناس بحب موصول بعطاء قديم.
– متى تذهبين للساحة؟
– الساعة السابعة صباحاً، مع توافد العمال والموظفين إلى أعمالهم.
– والعودة؟
– عند العاشرة مساء لأكون متعبة وأنام مباشرة هرباً من وحش الوحدة، أما إذا كان البردُ شديداً أو انتشر رجال الجمارك فأعود مبكرة.
عند الدرجة الواحدة والأربعين توقفت وأخرجت مفتاحاً لندخل باحة بيت صغير يبدو أنه مقطوع من بيت أكبر بحائط خشبي، تطل عليها غرفتان بينهما قن أسمته المطبخ وفي الزاوية المقابلة غرفة خشبية داخلها تواليت وصنبور معلق في السقف للاستحمام، باب صدئ رتقت بعض أجزائه بصفائح من الزنك، جدران عتيقة يمتزج فيها الأخضر بالأسود بعفوية. دخلنا غرفة أصغر في تابوت حجري، ذبالة ضوء معلقة في السقف تبدو مثل نجمة صفراء بعيدة، مسامير طويلة مثبتة على الحائط علقت عليها بعض الملابس. أحسست بالضيق من جو الغرفة الخالية حتى من كوة صغيرة يتبدل الهواء خلالها،حقيبة صغيرة، كرتون ورقي، تعب السفر الطويل الذي نسيته بسبب المدينة الجديدة يهيج داخلي بأمواجه العاتية، أخذت البطانية من يدي وفرشتها على الأرض ملاصقة لفراشها، ثم تنحت جانباً لأمدد جسدي المتعب. مساحات عديدة من جسدي تئن من الألم الذي أحسه يلدغني بقسوة، شهقات صغيرة تقفز بين الفينة والأخرى كنقيق ضفادع مريضة.
– الله يساعدك، الآن ينهض التعب، ارتاحي ونامي، لا تفكري بأي شيء، غداً ستكونين أحسن بعون الله.
مدت يدها على جسدي تمسه برقة، خدر لذيذ يفتح أبواب النقاش، ذهبت يدها إلى أماكن عديدة تعمدها بدغدغة تلجم التعب. لاح لي في زوايا الأفق المنسية صورة أبي حسين يركب حصاناً أبيض. تعب، خدر، غلبني النوم. استيقظت فوجدت أم محمد ما تزال نائمة، يدها اليمنى تحت رأسي واليسرى تلمني بحنان وكأنني ابنتها، فاحت من ثيابي رائحة فقدتها بعد الزواج. ربما لاحظت تعبي وهذياني فأخذتني إلى صدرها، أو ربما تكون محتاجة لحنان أمومي أو طفولي. إحساس بالراحة يغمرني من باحة صمتي إلى حافات جنوني. التعب يغادرني ليحل مكانه الأمان وأنا أتطلع إلى وجهها الجميل كبيدرلم يحصد بعد رغم السنوات الخمسين التي تحملها على كتفها. أية امرأة تفتح شبابيكها لتدخل فراشتي الحائرة إلى رياضها، لن أنسى الطيب الذيغمرتني به. مددت يدي ببطء وأزحت يدها من تحت رأسي فاستيقظت برشاقة وكأنها لم تكن نائمة.
– صباح الخير أم حسين. إن شاء الله ارتحت بعد ثلاث عشرة ساعة من النوم. تكلمت فيها كثيراً، تحركت، تدفعين الغطاء وأعيده عليك. وبقيت على هذه الحال حتى آذان الفجر فاستسلمت للنوم.
– كم الساعة الآن؟
– الحادية عشرة.
– وماذا كنت أقول؟
– لم أستطع الحصول على جملة واضحة، كانت كلمات متناثرة، سعد، خبز، جواز سفر، اركض، أمين، حفر الباطن، هدى، اللجنة الأولمبية. أمين، أمين عدة مرات. من يكون أمين هذا؟ قالتها بابتسامة ماكرة.
سبحت في مفاوز هذياني فرفعتني لجتها إلى اللاقرار، جاء صوتها طوق نجاة.
– سألت عن أمين فقط. حقك علي فاعذريني.
– لا والله أم محمد. كلك خير وبركة، لكنها الدنيا، أمين هذا هو المرحوم زوجي توفي قبل ثلاثين سنة تقريباً.
احترمت صمتي فترة ثم أخذت تحدثني عن الحياة هنا أو هناك، لا بد من مواجهتها بقوة وحزم لأنها لا ترحم الضعفاء. خرجت لفترة قصيرة أعددت خلالها الشاي، وبعد فترة عادت ومعها الفطور.
– الفطور اليوم على حسابي وبعد ذلك تدفع كل واحدة حصتها.
شكرتها وجلست أتناول أول فطور لي في عمان، سرحت مع الصغار، إنهم الآن يتناولون فطورهم. حمدت الله أني تركت لهم ما يكفي لشهر كامل.
– سأذهب لعملي، ارتاحي اليوم ولا تخرجي.
– إن شاء الله، سآتيك عصراً فلقد حفظت الطريق إليك.
ضحكت وربتت على كتفي ثم هزتها بخفة وقامت مودعة، أخذتها إلى صدري، لثمت جبهتها، تعانقت أصابعنا فراحت مسة مني تخبرها عن الأسى الدفين، ابتعدت خارجة ببطء وهي تتمتم: “الله كريم، الله يحفظنا” ثم التفتت بابتسامة أطفال تودعني.