اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس
سليم الشيخلي

أحسست أنها تعرفني منذ زمن طويل ولسبب ما لا تريد كشف هذه المعرفة. حاولت أن أتذكرها، عدوت في دهاليز الذاكرة فلم أجد صورتها معلقة إلا في صفحة الأمس. لطيفة معي، سأحتفظ بصداقتها، ولكن هذا لا يمنع من أن أكون حذرة. عدت من جديد إلى النوم لطرد بقايا التعب المنثور على جسدي لأستيقظ على صوت أذان العصر، غسلت وجهي ولما كان ثوبي مصنوعاً لجميع المناسبات وضعت العباءة على رأسي ونزلت السلالم الحجرية التي قادتني إلى الشارع. انعطفت يميناً مشدوهة بالمحلات الحبلى بالبضائع والمارة بمشاريعهم العادية، التفت يساراً كان لجبل القلعة مذاق عتيق،عارضة أزياء استهوتها المهنة فرسمت قدها في فضاء شامخ بأعمدته الرومانية. أحس أن المدينة قد بنيت فوق مدينة أخرى وإلا لماذا المدرج الروماني وسبيل الحوريات يشربون القهوة معها. وصلت إلى صف العباءات السود الطويل وأمامها السجائر وأشياء أخرى، وتوقفت عند بسطة أم محمد مسلّمة فردت:
– مساء النور، أهلاً وسهلاً، أعتقد أنك شبعت من النوم فالوجه.
– وشبعت أكلاً فلقد التهمت ما تبقى من الفطور.
التفت ببصري لأرى نهاية لخط العباءات فلم أجد. كنت أتصور أننا قلّة، ولكن يبدو أن أكثر نساء العراق موجودات هنا.
– ما ترينه هنا نموذج، سيري باتجاه الجسر سترين العجب.
وأشارت باتجاه الجسر. دفعني حب الاستطلاع والرغبة في السير أن أتوجه إلى هناك حيث أشارت، المسافة لا تزيد على مائة متر لكنها مزدحمة،رصيف ممتلئ بالباعة على جانبيه كأنك تدخل عنق زجاجة تدفع بك نحو جسر رغدان وتحته حديقة صغيرة مليئة بالعوائل التي انتشرت كالجراد فيالعراء تفترش الأرض، تطبخ، توسخ وتنام. الأطفال يلعبون بصعوبة بين الأجساد المتلاصقة. بيت كبير دون جدران يلم الآلاف من العوائل الهاربة من الجوع والامتهان. شكرت الله الذي وضع أم محمد في طريقي بهذه السرعة. كان يمكن لمساحة ضيقة بينهم أن تكون سكني وسط هذا المسرح التراجيدي. تقدمت قليلاً فأصبح الجسر ورائي. ساحات ترابية أخرى مليئة بأناس آخرين، أعمدة خشبية علقت عليها أسمال بالية لتكون ساتراً بين العوائل المتناثرة. تمنيت أن أرى مديرة مدرسة هدى هنا وبعض الوجوه التي كانت صخوراً قاسية أدمت قدمي، لم لا وأنا بشر أحمل تناقضاتي وليأزقتي وأكره مثلما أحب. رغم قسوة الطقس والظروف بزيها الآخر فالأسطورة تعيد نفسها بأحفاد نبوخذنصّر، جبابرة في تحمل قسوة الزمن والطغاة. لم أعد أحس بالغربة. هاهم الآلاف التي هتفت “بالروح بالدم” تقبض ثمن هتافاتها ومسيرتها في الدروب الخطأ رغم أنها فقدت أكثر من حسين وأضاعت أكثر من سعد. عدت أدراجي أجرجر أقدامي بصعوبة بين الكتل الذابلة وفي أعماقي تتوهج أنوار حب الحياة، “الحياة جميلة يا صاحبي” لست بأقل من هؤلاء وربما كنت الأحسن. أسكن في غرفة، بدأت العمل منذ أول يوم وصلت فيه، فما يمنعني من التصميم على الحياة من جديد. وصلت إلى أم محمد والدهشة تأخذني بمراكبها لأمرّ بوجوه تمنيت لو ترى ما حدث، ماذا سيقول نوري السعيد، عبد الكريم قاسم، وحتى عبد السلام؟ أي قرار عاجل ستتخذه هذه العصبة التي قادت أمورنا وأوصلتنا إلى ما نحن فيه.
– ما هذا؟ المأساة تلتهم شعبنا حتى خارج الحدود.
– هناك الكثير، ففي الوحدات، الزرقاء، أربد وأماكن عديدة من الأردن مثل هذه المجموعات وأكثر، نفس المهنة ونفس الحوار.
عادت تلك الأغنية تملأ شوارع روحي، “أريد الله يبين حوبتي بيهم“. لم أشتر سجائر لأزاول مهنتي فالجو البارد يغطي المدينة. جلست قربها أسلي نفسي بالتفرج على كل شيء، عرفت أنها من البصرة ودفعت ضريبة حرب القادسية وأم المهالك كما تسميها بفقد أخيها وأقارب عديدين ومن ثم الوطن. التفت إلى العباءات فرأيت فيهن ضحايا الحروب المزاجية، الجوع، الأفواه التي تنتظر منها الخبز، الأحبة الذين رحلوا دون عودة، ضحايا المدينة الغولة التي تأكل أبناءها، الطلقات الغبية التي تبحث عن ضحية، الأسئلة التي علقت فوق بوابات بغداد دون أجوبة، وأشياء دفعتنا من دون رحمة إلى عمان، آخر خيمة في الزمن الصعب.
– أم حسين سأتركك خمس دقائق، خذي محلي وأنت تعرفين الأسعار.
– سآخذ ربع دينار عن كل علبة.
ضحكنا سوية ضحكة صافية جاءت من نقطة بعيدة في أعماقي لم تتحرك منذ زمان. دماء جديدة ورغبة للحياة تسري بداخلي فأحس بالحرية تولد من جديد لتضيء قناديل مهملة وتمسح أتربة عن بعض المرايا.
– كل البضاعة لحسابك أم حسين والله لست بالسهلة.. وضحكنا من جديد. غابت قليلاً لتعود وهي تحمل كيساً للخبز وحبات الفلافل، جلست، أكلنا. كانت الساعة تقترب من الثامنة وأقدام المارة تقل رويداً رويداً والبائعات يلملمن حاجياتهن ويغادرن إلا أم محمد.
– لقد تعودت أن أغلق الدكان في العاشرة، فبعد ذهابهن أستطيع أن أبيع بسعر أعلى وأتعب أكثر.
تركنا المكان بعدما خفت حركة أقدام المارة، لفنا شارع فارغ إلا من القليل تشرب المدينة النعسى خطواتهم الثقيلة، عرجنا إلى السلم الصخري،وعند الدرجة الحادية والأربعين أخرجت المفتاح ودخلنا، لم تكن الغرفة الأخرى مضاءة.
– هل هي مسكونة؟
– نعم.
– من يسكنها؟
– شابتان من بغداد نادراً ما تأتيان، لهن أقارب في جرش كما ذكرتا لي، الصغرى كانت تعمل ممرضة في مستشفى صدام والثانية موظفة فيشركة أهلية.
– ولماذا لا تسكنان مع أقاربهما في جرش؟
– لا أعلم ولا أريد أن أسألهما، يأتيان الخميس عصراً، ويغادران الجمعة مساء وليس بيننا إلا السلام، الله يستر على أمة محمد. متى تبدأين العمل؟
– غداً صباحاً. ولكثرة بائعات السجائر حولي سألتها:
– من أين تأتى كل هذه السجائر؟
– تهريب من السعودية، سوريا والقادمين من العراق، حلقات متشابكة من أجل أن نعيش. لكل هنا دوره، مهربون، وسطاء، باعة، محولو عملة إلى العراق. فلا تشغلي بالك بهذه المسائل ستعرفينها بالتدريج.
علقنا العباءات على مسامير الحائط، بدأت تمد يدها في جيوبها السرية داخل الجلباب الداخلي لتخرج السجائر وتحرر جسدها. جلسنا ومع الشايأخذنا الحديث يمنة ويسرة. قصر الملك يطل على ساحة رغدان والسيارات تمر بجانبه وتقف عنده لنقل الركاب. يتجمع الناس عند الباب تكتب شكواها أو تسترحم من أجل شيء معين وفي البصرة منع سير السيارات والناس في شارع طويل يطل على شط العرب لأن نهايته توصل إلى قصر استولى عليه القائد لتكون محطة استراحة له ولم يزره منذ هزيمة عاصفة الصحراء.
البنات هنا جميلات بقوامهن المياس، العيون الملونة والوجوه النضرة، الرجال جديون في نظراتهم، لغتهم المليئة بأسرار لا يبتسمون إلا نادراً،يعطفون علينا لموقف سياسي لم ينكووا بناره.
فرشت أم محمد البطانية على الأرض ووضعت عليها مخدات عتيقة واقترحت أن نوحد أغطيتنا فالبرد شديد، نزلنا في الفراش الموحد، أغمضت عيني قليلاً، لم أستطع النوم، كنت مليئة به. أحسست بأنفاسها تلاصق وجهي دافئة يعبق منها تعب وكبرياء منعها من إقامة أية علاقة مع جاراتها الماجدات، فلقد كنّ كما أخبرتني أقل مستوى وأكثر تعباً وهمّاً على القلب، مشاكلهن كثيرة ولا تنتهي حتى بمعاهدات الصلح. تحركت قليلاً وكأنني فتحت لها شباكاً يطل على سهرة لم تشهدها هذه الغرفة البائسة.
– ما زلت يقظة؟
– نعم ورغبة أن أخرج لأستكشف الأكثر من عمان، لكنه الليل!
– عمان تنام مبكراً، لكنها تستيقظ متأخرة. ثم مدت يدها اليسرى على كتفي. إن شاء الله التعب راح ونسيت مشقة السفر.
– الحمد لله، وغداً سأعمل مثل الثور.. وضحكنا. مشروع حياة جديدة.