مي علي
اللوحة: الفنان الفلسطيني صالح المصري
في خامسِ أيام الحرب على غزة، أقف في مطبخي أفكر في صنف الحلوى الذي يمكنني إعداده بما هو متاح لدي من المواد، اقتنص دقائق الإنترنت المتاحة بين القطع والقطع لأبحث عن وصفة مناسبة، أفكر في نفسي: لا، هذه قد لا تحبها الصغيرة… لا، هذه ستستغرق وقتا
بووووووووم!!!!
استيقظ من بحثي عن صنف الحلوى المناسب لليوم على صوت قصف يخترق رأسي قبل أذنيّ، يتأرجح معه المنزل، وتتعالى أصوات الأطفال، أزاحم الأصوات لأذكَر أبنائي ماذا يقولون عند الجزع: (الله أكبر!).. أعنيها تقريبا في كل مرة، أو أحاول أن أستحضر معناها، الله أكبر من صواريخهم، أكبر من خوفنا، أكبر من حاملة الطائرات، الله أكبر من حجم الخذلان، الله أكبر من إسرائيل، الله أكبر من أمريكا! الله… “أكبر”.
بعد دقائق، تعاود نبضات قلبي إيقاعها المعتاد قبل أن يهدأ قلبُ طفلتي التي أتحسس صدرها مع كل قصف. تعاود هي بعيون ذاهلة صامتة وبانتقالة غريبة تلوين لوحتها الفنية، وأعود أنا إلى مطبخي الذي لا أذكر أصلا كيف انتقلت منه إلى الصالة! أفتح هاتفي المحمول لأعرف مكان القصف الأخير، يأتيني شيطان الحرب بسؤاله المعتاد: (تيك توك… متى دورنا؟؟)، أنفض رأسي وأستعيذ بالله، وأفوض أمري له، وأعود إلى صفحة الحلوى.
لو رأيتُ هذا المشهدَ السريالي في أي فيلم لقلتُ إن المخرجَ والمؤلف وجميع طاقم العمل أغبياء، وأن المشهد ضعيف وغير منطقي بتاتا. كيف للإنسان أن يتَنقل خلال طيفٍ واسع من المشاعر المتناقضة بهذه السرعة! كيف للإنسان أن يتأمل ويفرح ويقلق ويفزع ويُحبط ويحزن ويغضب ويهدأ خلال دقيقة واحدة! كيف يمكن أن يختبر إنسانٌ “سويٌّ” هذا الخليط من المشاعر كلها في دقيقة واحدة أو أقل! لكنني الآن أدرك تماما أن المشهد حقيقي مئة بالمئة.
وقس على هذا المشهد آلاف المشاهد، فنحن جميعا مشاريع شهداء نمشي على الأرض، نحيا حياة سحرية مليئة بالمتناقضات والمعجزات، لا تشابهها حياة أخرى على هذا الكوكب.
تنفض ربة المنزل التراب عن أثاثها الجميل، وتنتفض مع كل قصفٍ يهدد المنزل وما فيه ومن فيه…
تضع تلك الفتاة المراهقة قناع الوجه على بشرتها كي تحافظ على شبابها، تهتز يدها وهي تضعه وتركض نحو والدتها مع أبسط قصف يهدد حياتها أصلا!
يتابع الأب شاشات الأخبار تنقل صوت القصف “بعد” أن سمعه بشكل حيٍ بفارق ثوانٍ، يشرب الشاي بهدوءٍ كاذب، ويتناول الحلوى المطهوة على نيران الخوف!
جميعنا في غزة مصابون بشيءٍ يشبه الشيزوفرينيا أو حالة الإنكار أو التعايش الغريب، سمها ما شئت، لكننا أصبحنا بارعين أيما براعة في التنقل بين أطياف المشاعر بسرعة كبيرة، ولعلنا ندعي معظمها لنغطي على حالة الذهول الدائمة لدينا.
أُفضّل في كثير من الأحيان أن أدّعي أننا ربما نعمل بالمقولة: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”. وأُفضّل أكثر أن أرى أن هذه الحالة ربما سببها بركةُ محيط المسجد الأقصى “الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا”، تلك البركة التي تمنحنا -حتى الشخص العادي منا- قوةً خارقة تجعلنا نستطيع ما لا يستطيع غيرنا.
أنا متأكدة يقينا أن شهداءنا الآن بخير، لا ينقصهم ماء أو كهرباء أو غذاء، إنهم في ضيافةِ الرحمن، مكرمون، لا يجابهون فتنة القبر ولا يُسألون، كما أخبر عنهم رسولنا الكريم: (كفا ببارقة السيوف على رأسه فتنة!). لكنني متأكدة أيضا أن الناجي منا ليس بخير أبدا. لا تُصدق ثباتنا تحت القصف، وقولنا أننا بخير، لا تُصدق عودتنا إلى العمل بمجرد انتهاء الحرب كل مرة، وقد نقص من زملائنا من لن نراه مجددا -ناهيك عمن لم يتركوا ساحات العمل أصلا في هذه الفترات-. أرجوك ابحث عن التفاصيل وما وراء الصورة، راقبنا فقط بعد “نجاتنا” كيف نتحرك كروبوتات تدعي الحياة، تمارس دورها في المجتمع بصلابة وقوة تخفي تحتها الكثير، تدفع بأطفالها العاجزين عن فهم ما حدث في حياتهم منذ أيام قليلة إلى مدرسة ليحاولوا فهم ما في الكتب و”استدراك” ما فاتهم من المنهاج.
وإذا فهمت ما نكابده أو شعرت بأنك قريب من الفهم، أرجوك أخبر ذلك الغرب المنافق أننا بشر عاديون، لسنا “حيوانات آدمية” كما يصفنا بعض المتطرفين. نحن نحب الحياة، ونحبها جدا، وما كل ما ترونه من صور على شاشاتكم إلا ترجمة لهذا الحب المفقود!
عن «حكايا غزة»