اللوحة: الفنانة الكويتية سوزان بشناق
سليم الشيخلي

بدأت أناملها تنتقل من مكان لآخر فأحس بدغدغة خفيفة مريحة. بدت لي صورة أبي حسين في أيامه الأخيرة، فتحت عيني علّني أراه حقيقة. التفت إليها، كانت ابتسامتها رسائل مثل فراشات محلقة بكل الاتجاهات، وصلت إحداهن إلى المارد المدفون في أعماقي، هل تريد أن تفسد صورتها الجميلة! أستغفر الله، لن أدع أفكاراً سيئة تخرج أبعد من الدائرة التي أعيشها. لعلها صادقة في حبها وعطفها، أمسكت أصابعها ورفعتها عني قليلاً لأضعها فوق خصرها وقمت قائلة:
– سأطفئ النور، لم أتعود النوم والنور مضاء. في العودة خطر لي أن أسألها عن أطفالها .
– ليس لدي أطفال، رزقت بطفل مشوّه مات بعد أسبوع من ولادته.
– وزوجك؟
سرحت قليلاً، تخيلتها من خلال الظلمة تمد بصرها ليخترق الصحارى الحالكة بعيداً إلى نقطة لا أعرف نهايتها لتجمع من هناك صوراً حية وتضعها بكل ترتيب أمامي.
– ما دمت غير راغبة بالنوم سأقص عليك حكاية طويلة، أتمنى أن تبقى طي الكتمان. سأفتح لك دفاتر قلبي لأنني أحببتك لطيب منتشر على وجهك، صوتك وحتى لغتك. ترين أني شبه منطوية على نفسي، واختلاطي بالذين حولي محدود جداً ولا يتعدى المسائل البسيطة. كنت مديرة ثانوية في البصرة لا عن استحقاق بل لكوني عضوا نشطاً في الحزب وفي اتحاد نساء البصرة، ظننت أن ربيع حياتي سيخلد معي مثل الرسالة الخالدة، وبالأخير ضاع الربيع بين دفاتر الأيام والرسالة بين الطلقة والنزوة .
فتحت عيني في دار ورثناها عن أبي مع أخي الذي تزوج فيها. رغم ما شهدته البصرة من ويلات القصف والحرائق لم نغادرها، كانت القذائف وصافرات الإنذار والموت الذي يتجول في الطرقات يجمعنا بكل الحب، إلى أن جاءت أم المهالك فدخل الذل والجوع من الأبواب والشبابيك وشروخ الجدران. بعنا من حاجيات البيت لنشتري الطعام، وغول الغلاء يفترس كل شيء، حتى المساعدات المالية التي يمدنا بها اتحاد النساء سراً لم تعد تكفي،عندما أصبحت الموجة أكبر من هاماتنا قررت أن أعمل من أجل أن نعيش.
– والراتب؟
– لم يكفِ لشراء كيلو لحم. أخبرت أخي بأن في عمان مجالات عمل كثيرة، سأعمل موظفة في شركة، رفض في البداية، بكت زوجته، عندما لم يجد في المطبخ قطعة خبز رضخ وأعلن موافقته مع شروط ونصائح. تقاعدت من عملي بعد أن عملت له وكالة عامة يتصرف بها براتبي وحصتي في الدار إذا ضاقت الدائرة كي لا يجوع الصغار. جئت إلى هنا أبحث عن عمل في مدرسة أو شركة فوجدت الأبواب موصدة، اعذريني القول بأني انحدرت إلى بيع السجائر، لكن يشهد الله أنها أحسن بكثير من الوظيفة، فالربح أضعاف والاستقلالية لا يملكها مدير شركة .
– أراك تتهربين من الحديث عن زوجك.
– لا أريد أن أتعبك معي.
– تعبك راحة عيني.
– خطبني في حياة والدي موظف كبير ورفيق حزبي، قلت لوالدي: والجامعة؟ فقال إن زوجك لا يعارض إكمالك الدراسة الجامعية. سأل أخي عنه بعض المعارف فقيل له لا غبار عليه، لا يختلط بالآخرين إلا قليلاً، غير مؤذٍ، كان لطيفاً ومؤدباً معي أيام الخطوبة، فتم الزواج بسرعة. انتقلت إلى بيته الجميل متصورة أني سأكون أميرة مملكتي الجديدة آمر وأنهى مثل شجرة الدر، ظل ساكناً أمام غنائي، نزواتي البريئة و محاولاتي أن أدخله عالمي المليء بالسرور، في الشهر الثالث انقلب إلى شخص آخر، بدأ يصرخ عليّ عندما أطلب منه شيئاً أو أغني،يبخل في الضروريات وعندما أناقشه يضربني، استسهل الضرب والهجر، بدأ يأمر وينهى وعندما لم يجد مني أيرد فعل تمادى في استخدام حزامه لضربي. سقطت كل أقنعته ليظهر وحشاً في كل تصرفاته. تسورت بالصمت والتنازل عن كل أشيائي البسيطة إلا الغناء فكان يزيده غضباً. أدرت له ظهري فكان يغتصبني، يشاهد دموعيدون أن يكترث، وعندما يهدأ يدير لي ظهره ليذبحني بشخيره المزعج. اكتشفت أن له أقارب لكنهم لا يزورونه لسلاطة لسانه معهم. كنت أحس بالراحة في حرم الجامعة. لم أخبر أهلي فبساطتهم لم تكن كافية لصنع سياج يحميني، أعرف أن جوابهم سيكون “اصبري، تحمّلي لا بد للمرأة من المحافظة على بيتها”.
دخلت اتحاد النساء لأستمد منه القوة وأدافع عن نفسي. استيقظت النمرة في أعماقي وبدأت تخرمش رغم سياط لاعب السيرك على ظهرها، بدأت أتعبه بالصمت والاحتقار، ثم انقلب التعب إلى خوف، خاصة أن اسمي بدأيلمع في الاتحاد إذ أصبحت نائبة للرئيسة وأقضي فترة العصر في الاتحاد. في إحدى حفلات التعذيب بالحزام قررت أن أشكوه للرئيسة ورأت اللسعات المطبوعة على جسدي. اتصلت به بالهاتف طالبة منه أن يزورها. جلس فيغرفتها مثل تلميذ يؤدي امتحاناً صعباً لم يحضر له، أخبرته أن الاتحاد سيقدم شكوى ضده لأنه يعامل رفيقة وبنفس الوقت زوجته بوحشية وسيرمى في السجن وتطاله عقوبة إذا لم يتعهد أمام الجميع بأن يبدل سلوكه الخشن ويعاملها كإنسانة. وأضافت بابتسامة حذرة إن أي اعتداء على الرفيقة سعاد اعتداء على الحزب. خذ زوجتك، عاملها بالمعروف وعش حياتك بما يرضي الله. قمت قبله وتبعني بطريقة تدعو للرثاء. كنت أزغرد فيداخلي وأنا أرى البعير الذي كسرت ظهره قشة. شكرت رئيسة الاتحاد على الدور الذي قامت به فثلمت شوكته ليبدو مثل ذكر النحل. لقد اكتشفت نقطة ضعفه فطعنته في صميمها، خوفه من الحزب رغم أنه حزبي قديم. لقد حالت سنوات من العذاب معه من أن أعطف عليه أو أتنازل له ولو قليلاً. بقيت صامتة طوال الطريق إلى المنزل وهو يسير خلفي دون أن ينبس ببنت شفة. في البيت طلب مني أن أجمع كل حاجياتي وسيرسل لي ورقة الطلاق والمؤخر. لن أنسى آخر جملة سمعتها منه:
– أنا لا أستطيع أن أتزوج الحزب أيضاً.
على الرغم من أن قصتها شاهد لسلوكيات أجازها التيار الرسمي، وإرث تساقط عليه غبار الفحولة فتداخل به وبينه أحسست بالحزن عليها. لو كان زوجها إنساناً طيباً هل ستحمل مثل هذه الذكريات؟ وكم طفلاً سترزق يملأون عليها الحياة بالحب والعافية! طافت روحي هناك، بيت صغير في مدينة الثورة قرب جدارية كبيرة تحمل صورة الرئيس وهو يزرع فيه فلذات كبدي، أولاد حسين وأمهم، زوجة سعد الذي سأفتش عنه في أي مكان أكون فيه. يقال أن بعض الجنود الأسرى لم يعودوا إلى العراق بل آثروا الذهاب إلى دول أخرى. أعرفك عنيداً مع الموت،قوياً، جريئاً، تملأ مكانك حيوية ونشاطاً. مؤمنة سأراك، سأبحث عنك أو جثتك.
لا أدري متى غادرنا الصباح آخر مرة دون أن يترك بصماته على فنجان الشاي..هل تراه يعود، قطعة خبز ساخنة عليها قليل من القيمر ويضع رأسه على المخدة. يداهمني شريط أيام قديمة تمتد إلى بواكير الإحساس لتبدأ صور تجيء من الطفولة على مركب وردي يخترق البساتين الخضراء تحت سماء زرقاء صافية، قرية صغيرة قرب مدينة الصويرة نزحنا منها إلى بغداد، وسكنا أكواخاً خلف السدة، أدخلني أبي لمدرسة لأتعلم مبادئ المعرفة فأحببتها، وعندما جاء الطوفان غرقنا وأنقذت السدة بغداد. سكنا مخيماً في ساحة مكشوفة. أدار أبي كشك شايفي إحدى دوائر الدولة، وكانت أمي تخدم في إحدى بيوتات البتاوين المترفة. بعد سنة تزوجت من أبي حسين، تركت المدرسة لأهتم بزوجي، ثم جاءت الثورة، رصاص، سحل لجثث بشرية في الشوارع، مجازر الموصل،كركوك، ثورة أخرى، قتل، رعب، قطار الموت. ثورات، حرب إيران، أم المعارك، اختفاء سعد، تحويل الهزائم المرة إلى انتصارات قتلتنا جوعاً وحلمت أنني أسير في غابة صفراء داكنة كثيفة مليئة أشجارها بالمياه، نور من بعيد يدعوني وكلما اقترب منه يهرب مني، سكون مخيف يدفعني للركض نحو النور، بدأت أركض وأنا أصرخ”سعد” والنور يهرب، يهرب. الأشجار تركض معي، تقترب مني لتشكل طريقاً ضيقاً، والخوف يطبق على أجزائي المتراكضة، الأشجار تتحول إلى غيلان والأغصان أذرعة تضربني بعنف، فنهضت فزعة وأنا أتمتم كلمات مبهمة. استيقظت أم محمد والرعب يملأها، استعاذت وبسملت وضمتني إلى صدرها، كانت أدعيتها بخوراً يملأ الغرفة ويداها تطوقاني بالحنان الذي افتقدته من زمان فلم أجد إلا كتفها لأرمي رأسي المثقل بالرصاص والكابوس عليه. أسندتني إلى الجدار، جلبت ماء ونثرت على وجهي منه، شربت منه، كنت أشهق بين الفينة والأخرى .
– سلامتك أم حسين، كابوس والعياذ بالله وانتهى.
أنزلتني برفق إلى فراشي، أحسست بقليل من الراحة، انتهى الحلم بإرهاصاته التي أشعلها التعب. قامت لتغلق الباب، أطفأت النور واحتوانا فراشنا، يدها اليسرى تمسح على جسدي وهي تتمتم بجمل لم أميز منها إلا أسماء آل البيت، وراحت تنفخ على رأسي ووجهي القريب من وجهها. أحسست بأني أحسن من اللحظة الماضية، الأمان يطوقني بذراعيه. أصبح الدفء حصاناً يهرول في سهوب زرقاء هذه المرة فلم أستطع إيقافه، فالتعب من الحلم هد جسدي لكن لمساتها كانت تحرك فيه الحياة. تحركت قليلاً لأبعد جسدي عنها كانت ذراعها حائطاً لا يمكن اختراقه،تنهدت بصمت تنهيدة غارقة بالهمسات كانت المفتاح الذي تكسرت به أبواب صدئة ينام خلفها مارد بدأ يستيقظ من سبات طويل فراحت تمد شفتيها برفق وتقبّل الظلمة في وجهي وتحرك اللسعة الخادرة في أماكن منسية حسبتها تكملة لموضوع الجسد. المارد يتململ ثم يهب واقفاً على قدميه، صدرها يلتصق بصدري، شفتاها تغوران بين شفتي، أصبحنا واحدة، جسدي ينفض أتربة قديمة وينتفض، يداي تهرعان إليها لتضمها بقوة، وفجأة انقلبت هذه المرأة إلى أبي حسين في جوف ظلمة هذه الليلة لتهتز الدنيا بكل أشيائها الثابتة والمتحركة.
الوقت يمر وحصاني يطير الآن فوق أنهار دافئة ومدن بلورية، يطاول السماء ويعبث بالأنجم ليسقطها مثل الألعاب النارية. لذة مخزونة منذ ثلاثين عاماً كنت قد نسيتها تماماً، أغرق في لجتها الآن وأغرف منها حد الثمالة،صرخات الجسد المكبوتة تهزه بعنف لازوردي، فيروزي، بكل الألوان. هدأت العاصفة وعادت المهرة إلى فراشها الفقير. أحسست برغبة في أن أبقى بين الأرض والسماء لكن الجدران، المسامير، الثياب المعلقة جرتني من أذني وأنا أرى الغرفة حولي والأغطية مبعثرة، وأم محمد واقفة عند الباب تعيد ترتيب ثيابها. نظرت إلى نفسي، كنت شبه عارية وبلل يقرص فخذي، فوضعت رأسي بين يدي وأجهشت بالبكاء. جلست جنبي وهي تضع رأسي على صدرها وتعبث بخصلات شعري المتناثرة وهمست برقة ونعومة.
– اعذريني يا أم حسين، أنا أيضاً خجلة مثلك وعندي رغبة في البكاء، لم أستطع إيقاف نفسي أمام هذا البركان الذي تفجر.
عادت من جديد ترتب شعري وتمسح عن وجهي ما سال من دموع، وبنبرة جادة قالت:
– أليس هذا أفضل من معاشرة الرجال التي ستجلب لنا العار والعبودية، يمتطوننا متى يشاءون. كثيرات ممن انزلقن مع الرجال التصقت بهن سمعة ورائحة نتنة وصلت إلى ذويهن في الوطن. الحمد لله نحن نساء وهذا شيء خاص بنا. نحن نعمل ومكسبنا يغنينا عن مد أيدينا لطلب المعونة.
رغم إحساسي بالحرج الشديد لكنني لا أنكر أنني استمتعت بحرية، كان بكائي محطات صمت ألتقط فيها أنفاسي لأبحث عن تبريرات مقنعة لما حدث، كانت دموعي إعلاناً صامتاً عن موقفي رغم إحساسي الأكيد بالانزلاق في موقف لسع كبريائي بباقة عطرة.
– أنا مؤمنة بأنك نظيفة منذ وفاة زوجك لكن لجسدك حقاً عليك. لنعش حياتنا هكذا دون خوف. لقد نسينا أنفسنا وأجسادنا. نحن نكدح من أجل الآخرين ولن نأخذ معنا للقبر سوى تعبنا ورحلة الشقاء هذه، فلنرح أنفسنا قليلاً في محطات نظيفة، ولن يقودنا إلى الفضيحة إلا إذا خرج السر من هنا.
بدأت من جديد تمسح على رقبتي وتلعب بخصلات شعري وتحيط بي مثل كنز ثمين تخاف أن تفقده، فقالت بغنج:
– ألست تحسين براحة بعد أن نفضت الأتربة والصدأ عن جسدك؟ ستكون الراحة أكبر عندما نعاود الكرة دون خوف.. وبدهاء ممزوج بضحكة مسموعة أضافت:
– حمداً لله على السلامة، إن شاء الله ولد.
نظرت إلي. ما زال الصمت والرهبة يملآني فلم أنبس بأي شيء. وضعت رأسي على المخدة ورمت الغطاء فوق جسدي المتيبس وقالت:
– لم يبق إلا وقت قليل ونبدأ رحلة العمل، حاولي أن تنامي ما تبقى من هزيع هذا الليل لتستيقظي وأنت مليئة بالحيوية والنشاط.. ثم غمرتني بقبلة على خدي كأني ابنتها ولست المرأة التي نصبت خيمتها على مشارف الخمسين ورحلت معها قبل قليل الى عالم واسع ومقفل.
لم أستطع النوم، كنت في صراع ودهشة، كيف تركت ما في القدح ينكفئ وتتسرب مياهه بين الرمال، لكن لو كان للإحساس باللذة فم ليبوح ما في داخله لقال معلقة شعرية. أستغفر الله، لقد نسيت الأمر ولم أفكر به مطلقاً ولو كنت.. لتزوجت من رجل آخر. لن أفعلها مرة ثانية حتى لو اضطررت إلى ترك هذه الدار. لست بالساذجة التيتتصورين، إحساس بالإثم يملؤني، هل كتب عليّ أن أصعد في سفينتها من أجل هذا؟ أن أذعن لكل أشكال العواصف التي تلاحقني وتسبقني كما تعودت من هذا الزمن الرمادي، لكني كنت قبل قليل سعفة خضراء..خضراء اهتزت مع نسمة مرت بها قبل قليل. سأبحث عن ملجأ آخر لكن ليس الآن.. لا بد من أن أعرف المدينة أكثر.
ظل الصداع ينازعني، يبعد النوم عني، هل كانت صادقة في ما قالت! بدأت أتنقل بين الشك الذي تعلمته بالقسر وباليقين الذي أحسسته قبل قليل، والسر هل سيبقى سراً بين اثنين. يتلبسني خجل أن أحس بأني متهمة، القاضي أبو حسين ومحامي المتهم أم محمد. “لا أدري، لا أدري” هكذا كنت أصرخ في أزقة الذاكرة مع إحساسي ببقايا عسل على شفتي. أتعبني كل شيء فأغمضت جفني لأستريح لحظة وردية.