بورصة القيم

بورصة القيم

اللوحة: الفنان المصري كمال قنديل

في حفل، جلست امرأة على المائدة بجوار برنارد شو، فسألها بهدوء: “سيدتى هل تقبلين أن تقضى معي ليلة بمليون جنيه استرليني؟”، فابتسمت المرأة وقالت: “طبعاً بكل سرور”، فعاد وسألها: “هل من الممكن أن نخفض المبلغ إلى عشره جنيهات فقط؟، فغضبت المرأة وصرخت فى وجهه قائله: “من تظننى أكون؟”، فقال لها بهدوء شديد : “سيدتى. نحن عرفنا من تكونين، لكننا فقط نختلف على الأجر”.

تدفعنا هذه القصة إلى طرح سؤال هام، هل القيم تتجزأ أو تنقسم أو تنكسر لأي سبب؟

لا يمكن أن يوصف الإنسان بالعفة إلا حين تصمد تلك العفة أمام كل المغريات، كبيرة أو صغيرة، التزام لا يتوقف على ظرف خارجي، فالقيم مثل الإيمان، فالمؤمن لا يتنازل عن إيمانه مهما كانت المغريات أو الضغوط.

هي القيم العليا، فلا يعلو عليها شيء، فلا يوجد نصف صدق، هناك صدق مقابل كَذِب، لا يوجد معجون صدق بالكذب، ولا صدق مغلف بالكذب، وبالتالي لا نصف حرية ولا نصف عدل، ولا نصف أو جزء في القيم، هذا منزلق الإنسان، وخاصة الذي يحمل قيما ويسهى في خضم أحداث الحياة عنها وعن صلابتها ونقائها.

من المشاهد السينمائية التي لا أنساها، رجلا يمسك بورقة تحمل شيكا به رقما فلكيا، يستطيع هذا الرقم أن ينقله لطبقة إجتماعية لم يكن يحلم بها، وأن يحصنه ماديا بقية عمره فيحيا مُرفَّها بلا عمل ولا كفاح، هذا المبلغ رشوة كي يخالف ضميره وييسر وقوع ظلم، فيقول لصديقه:

“كم هي القوة الهائلة التي أحتاجها لتمزيق هذه الورقة؟”.. ثم مزقها.

الإغراء هو الذي يُلين القيم ويشوش على الضمير، والإغراء بزجاجة خمر أو أمرأة لعوب ليس دائما الذي يهزم القيم، لأنه إغراء مباشر بلا قناع، ولكن الذي يخدع وينجح كثيرا هو الإغراء المغلف بغطاء نبيل، مثل مبرر مصلحة الدعوة، أو مصلحة فئة من الناس أو منع الضرر عنهم، لأجل تلك المصالح يقرر الملتزم بالقيم أن يتماهى مع الظلمة في خطوة يراها مؤقتة، وهو ينوي أن يعود بعدها للطهر الخالص، ولكنه يدرك متأخرا تورطه في الخطيئة الكبرى.

في الثمانينيات كان صراع بين السلطة والتيار الديني السياسي للسيطرة على النقابات، وهمت السلطة بتمرير قرار بإحدى النقابات الكبرى يضيق على فرص الإسلاميين، فطالبوا بعقد جمعية عمومية، فذهب صديقي مسرعا ليحضر تلك الجمعية ويصوت برفض هذا القرار، وبينما هو جالس نظر حوله فتعرف على بعض الأصدقاء من الإسلاميين الذين ليسوا أعضاء في النقابة، وتعرف أيضا على أصدقاء من الحزب الحاكم ليسوا أعضاء في النقابة، وكان الهرج قائما بحيث لم يحدث تفتيش أو طلب بطاقات إثبات العضوية من كل فرد، وتم بسبب هذا الحشد إبطال القرار وانتهت الجمعية العمومية، وعاد صديقي ليلتقي برؤسائه في التيار، وتساءل عن تفسير ما حدث!، فقالوا له: “لم يكن أمامنا وقت واضطررنا لهذا”، وتعللوا بأن الحكومة تفعل نفس التزوير، فسألهم صديقي: “هل الغاية تبرر الوسيلة! هل التمسك بالقيم يتوقف على الطرف الأخر! هل يباح الغدر مقابل الغدر؟، ألم نتعلم منكم أن الغاية شريفة والوسيلة شريفة!”

ولما لم يقتنع غادرهم وكف عن الأيديولوجيا.

هذه القصة توضح صعوبة الاحتفاظ بالقيم حين يكون الطرف الأقوى لا يخضع لها، فيكون امتحان صعب، ولكن رغم صعوبته فلا بد من التمسك بالقيم للنهاية مهما كانت النتائج، فالتمسك بالقيم يعطي مثالا للناس، حتى لو لم يستجيب الناس في نفس الوقت، مع مرور الأيام وتوالي أمثلة الثبات على القيمة تميل القلوب للحق وتتغير الموازين وينحاز له كل الناس، ولهذا لا بد أن يصر الإنسان على الاحتفاظ بنبله مهما كان الثمن، فبنبله يحافظ على المثال أمام الناس، ويكون خير داعية للقيم.

كتب أحد الولاة في عهد عمر بن عبد العزيز إليه: “إن أناسا من العمال قد اقتطعوا مالا ولست أقدر على استخراجه من أيديهم؛ إلا أن أمسهم بشيء من العذاب، فإن أذنت لي أفعل”، فكتب إليه عمر:

“إني أعجب من استئذانك إياي في عذاب بشر كأني لك حصن من عذاب الله، وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله، فانظر من قامت عليه بينة فخذه بما قامت به عليه البينة، ومن أقر لك بشيء فخذه بما أقر به، ومن أنكر فاستحلفه وخل سبيله، ويم الله لأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم والسلام”.

كم يوجد في التاريخ مثل هذه القصة، وعي مبكر بأن الإنسان قيمة عليا، لا ينتهك لأي سبب، ولم يكن قول عمر إلا تعبير عن مكانة الإنسان في القرآن الكريم.

في فيلم “المواطن مصري” يخاطب “مصري” والدته قائلا:

تعرفي يامّه؛ أنا إتضحلي إن أنا عمري كله شبه المجموع اللي أنا جبته في ثانوية عامة. 50% نص نص يعني، بس مش أنا لوحدي، البلد كلها نص النص، عمرنا ما فرحنا للآخر ولا حزنا للآخر، عمرنا ما رضينا للآخر ولا غضبنا للآخر، دايماً نص نص، دايماً بنرجع قبل آخر المشوار، عشان كده لا بنروح ولا بنيجي، محلك سر، حتى في الحرب لا بنحارب ولا مبنحاربش، بيكتبوها كده في الجرانين؛ “حالة اللاسلم واللاحرب”، البلد ذات نفسها مش جايبة مجموع يامّه.. مش أنا لوحدي.

هذا الحوار شديد العمق والقوة، يعبر فيه عن أكبر عامل من عوامل فشل كل الأيديولوجيات وكل الجهود، فالتدين نصف، والعلمانية نصف، والضمير نصف، والأحلام نصف، والديمقراطية نصف، وكل نصف فارغ لا بد أن يمتلئ بنقيضه، فالتدين النصف يمتلئ باسترخاء الضمير، والليبرالية النصف تمتلئ بأفكار عنصرية وديكتاتورية، والخير النصف يمتلئ بالشر، فالقيم هي حالة طهر تام، وأقل جرثومة تنال منها، والجرح لا يندمل إلا بالتطهير الكامل، ولهذا فلا بد من القيم الصافية.

حين حدث انتشار سريع للتيارات الدينية الإحيائية في السبعينيات، وزاد عددهم في المجتمع، ظهرت مشكلة خطيرة تتمثل في الفارق الكبير بين القيم الدينية والواقع الفاسد، واشتكى الشباب من انتشار الرشوة في كل مكان حتى أصبحت هي الأصل، وسأل الشباب شيوخ الصحوة الدينية، وفي تلك اللحظة كان متوقعا أن ينتصر علماء الصحوة للقيم العليا، فيرفضون الرشوة تماما، ويبتدعون وسائل جماعية سلمية من المتدينين لمقاومة الرشوة والتضييق عليها وتسليط الخطاب الديني بكل قوته على تلك الظاهرة، ولكن الذي حدث كان عكس ذلك، إذ صدرت فتوى أشبه بقصة السيدة التي ساومها برنارد شو على عفتها، فأصدروا فتوى بجواز تقديم الرشوة بشرط أن تكون النتيجة أن تأخذ حقك فقط دون زيادة!، وبهذا تم فتح أول ثغرة قيمية في نوعية الفتاوي التي تصدر للتعايش مع الفساد والمساهمة فيه، وليس مقاومته ونشر الإصلاح.

في القرآن الكريم الآية﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾. النساء (135)

وفي آية أخرى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾. المائدة (8)

قد يقع الإنسان في حرج لأسباب حساسة، مثل أن تتسبب شهادته في ضرر له أو لأهله، أو يقع عليه ضغط عاطفي لغنى أو فقر أحد الطرفين، أو يحمل بغض في قلبه، فأمره بالتزام قيمة العدل كاملة بلا أي حسابات.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.