عبد الرقيب الوصابي

رواية «بالألوان الرمادية» للروائية سهير علوي الصادرة مؤخرا عن مؤسسة أبجد للدراسات والترجمة والتسويق، والتي تقع في 188 صفحة، تدور أحداثها في الشريط الساحلي التهامي، وذلك مع بداية العام الذي اندلعت فيه حرب الخليج وغزو صدام حسين للكويت، وهو العام المرتبط بالعودة المباغتة لأكثر من مليون ونصف مغترب يمني من أرض المملكة السعودية، على خلفية موقف اليمن المؤيد لغزو العراق لدولة الكويت الشقيقة.
تقوم رواية «بالألوان الرمادية» على رصد التحولات الكارثية التي أصابت المجتمع اليمني، جراء عودة المغتربين اليمنيين، إذ لم تغفل الرواية المعاناة التي عاشها العائدون ممثلة بممتلكاتهم الخاصة التي لم يتمكنوا من استقدامها معهم أو الصعوبات التي واجهتهم، فيما بعد في طريق عودتهم إلى اليمن، كما لم تقفز الرواية عن الصعوبات التي واجهت المغتربين في البحث عن أماكن يسكنون فيها، وما ترتب على ذلك من أزمات اقتصادية متمثلة في ارتفاع إيجار الشقق السكنية، والازدحام الخانق في الأحياء الشعبية الفقيرة.
ترصد الرواية الآثار الناجمة عن توافد جماعات التدين السياسي التي أخذت في الانتشار والتوسع بما تيسر لها من سبل الدعم وخلو الساحة، فكان حضورها وانتشارها على حساب التدين الشعبي المألوف عند الناس، إذ قامت الجماعات في طريق لتوسع والاستقطاب على تقويض الكثير من العادات الاجتماعية اليمنية الأصيلة وإحلال عادات وتقاليد جديدة لا تمت للمجتمع اليمني بصلة، بل إنها تسيء له وللثوابت والقيم المترسخة في أعماق اليمنيين.
يوازي ذلك عودة “عزة” بعد طلاقها، للعيش مع جدتها فتون، في طريقها منكسرة إلى المنزل الكبير، تسترجع “عزة” ذكريات الحي المغلق، وتأثير جيل الآباء والأجداد في الزمان والمكان، وكيف تبدلت الدنيا بعد قيام الثورة وإعلان نظام الجمهورية 1962م، وبين استرجاع شريط الذكريات، وندب حظها العاثر، تقف “عزة” على مظاهر اجتماعية لم تكن معهودة من قبل، لهجات غريبة على المكان، وسلوكيات طائشة تبقي آثارها على واجهات المنازل ومداخل الأزقة للحي، كما تشاهد أثاث فاخر ملقى في الساحات والفضاءات المفتوحة.
تصف الرواية تفاصيل الحياة الدقيقة، وتعرض مشاهد الحياة اليومية، بالألوان الرمادية، وكأننا نجلس أمام تلفاز قديم تعرض قنواته المشاهد بالأبيض والأسود، امتزاج عائلات المغتربين، مع أفراد عائلات ممتدة في عمق المكان منذ عقود طويلة، ولأجل ذلك يصف خطاب الرواية، سلوكيات طارئة على المجتمع، أفكار دينية لا تمت للمكان، جماعات دينية “أم عماد أم محمد” تستهدف المجتمع النسائي بدورات ومحاضرات دينية تتنكر للموروث الروحي والديني للمكان، وتسعى لإحلال أفكار ومعتقدات غير مألوفة من قبل، كما يعكس خطاب الرواية طرائق تفكير أفراد الحي الذي صار بعضه متعلقا بالتفكير الصوفي الروحي المتوارث عن الآباء والأجداد، بينما صار بعضه الآخر متأثرا بطرائق جماعات التدين السياسي الوافدة على المكان، ومن هنا يدب الصراع وتتأزم الأحداث في أوساط الجماعات الدينية المتنافسة.
تقوم “عزة” وجدتها “فتون” بمرافقة الجارة “نسمة” وزوجها، برحلات علاجية إلى قرية “يختل” وقرية “الهوب” وأخيرا إلى “السخنة” في محاولات عرض “نسمة” على الأولياء الصالحين طلبا للشفاء والطبابة، وهنا تكتشف “عزة” أنها ابنة الزهرية، وعندئذ تتجه أحداث الرواية منحى غرائبيا، وتظهر على السطح طقوس علاجية، تضفي على أحداث الرواية حيوية وديناميكية تمضي في اتجاهين؛ عوالم السحر والجن.
يتحول مسار الشخصية عزة، إذ نجدها تتنقل في أكثر من جماعة دينية، حتى يستقر بها الحال عضوة فاعلة في جماعة الإخوان المسلمين، تستغفل كثيرا، توافق على الزواج من أحد أعضاء الجماعة، وأثناء تحركاتها تكتشف الكثير من أسرار الجماعات الدينية، والأخطاء الجسيمة وتجاوزات بعض أفراد الجماعة، تحاول الابتعاد لكنها تعجز عن ذلك، تواصل تنفيذ مهامها المتمثلة في السفر للقرى المجاورة، بقصد الإقناع والتحشيد لصالح الجماعة.
تسلط الرواية الضوء على جملة من الانتهاكات والأخطاء الكارثية، والإكراهات التي تتستر عليها جماعات التدين السياسي، تلك الأخطاء التي ظلت تنمو وتأخذ مدى في الاتساع، وذلك بسبب انتهاج هذه الجماعات الدينية المتصارعة مبدأ السرية، في تحركاتها تحت غطاء الدعوة إلى الله، وتسبب ذلك في استفحال الرذائل المتعارضة مع طبيعة الفطرة الإنسانية السليمة، إذ تكتشف “عزة” عند عودتها في وقت متأخر من الليل زوجها “أبو حذيفة” المنتمي لإحدى الجماعات الدينية، في وضع شاذ مع رجل آخر يتبادلان المتعة المحرمة في غرفة جدتها الشريفة فتون، كما تضبط الشابة “أمينة بنت الشيخ منذر” زوجها الشيخ سالم في عملية جنسية محرمة مع صبي في ريعان شبابه، وقامت بتصويره وتوثيق الحادثة البشعة، حتى يتسنى لها الحصول على حريتها من خلال إقناع والدها بضرورة الانفصال عن زوجها الذي تزوجته بالإكراه، ومن ثم عقد قرانها بالشيخ جواد.
بينما تطلق “عزة” للمرة الثانية بعد علقة ساخنة تفقدها وعيها مدة شهر كامل، بعد نهوضها تقترح عليها فاطمة بنت الشيخ منذر الزواج من والدها لكي تكون عونا له على إعالة أختها المقعدة، تبدي موافقتها، وتعيش حياة الكفاف إلى جوار الشيخ منذر، بعيدة تماما عن مناكفات العمل السياسي ومكائد الأحزاب الدينية.
تحرص الرواية على تقديم الكثير من مظاهر الثراء الروحي والتنوع الثقافي الذي تعرف به تهامة أرضا وإنسانا المسورة بكرامات أوليائها الصالحين، والمحروسة بأخلاق التصوف وتعاليم الصوفية الداعية على التسامح الديني والتعايش مع الآخر في ظل احترام عادات المجتمع وتقاليده، وتسعى الرواية إلى كشف بؤر الصراع المحتدم بين جماعات التدين السياسي فيما بينها، في التوقيت الذي يحاول فيه أفراد المجتمع رجالا ونساء المحافظة على التدين الشعبي الذي تلقوه عن آبائهم في ظل الاجتياح الواسع للجماعات الدينية المتطرفة التي تستغل حاجات الأسر الفقيرة محاولة استقطابها لتأدية مهام تخدم التنظيم وتودي بالإنسانية.
ترصد الرواية تحولات المجتمع التهامي، على امتداد السنوات الأخيرة، إذ غدا منساقا وراء تنظيمات دينية سرية متطرفة، تستغل عوزه وحاجة أبنائه، وبذلك يتخلى تدريجيا عن هويته الروحية وانتمائه للمكان، لكي يغدو تابعا مسلوبا لا يملك قراره، تستخدمه الجماعات في مهام جمع التبرعات وإقامة المحاضرات والندوات التي تسعى من خلالها لتكثير سواد الجماعات الدينية وإثراء رموزها، ولوكان على حساب الفقراء والمعدمين، فحين تدعي الجماعات الدينية التي تعمل “عزة وأمينة” لصالحها أنها تجمع التبرعات لصالح المجاهدين في فلسطين، تكتشفان خلاف ذلك عند قيام “رويدا” بتقسيم نسبة من المبالغ المجموعة وتوزيعها على العاملين والمؤلفة قلوبهم ضمن نطاق التنظيم.