رفيقتان في غربة

رفيقتان في غربة

اللوحة: الفنان الإنجليزي هرقل برابزون برابزون

سليم الشيخلي

صحوت على هدهدتها الرقيقة، جلست، كانت تملأ الجيوب السرية بعلب السجائر، وبعد أن شدت زنارها بدت أكثر بدانة، تلاقت نظراتنا فأحسست بالخجل، لكن ابتسامتها فتحت الشبابيك للعصافير فخرجنا، كانت مثل ملكة النحل هذا الصباح، إشعاع لذيذ في داخلها ينعكس على كلماتها وحركاتها، فتمنيت أن أكون مثلها.

– الحياة مدرسة، ولكي نعيش بأمن وطمأنينة لا بد أن نكون طلبة مجتهدين، الغربة تحتم علينا أن نكون أقوياء، النظرات حولنا تتهمنا بالسطحية والسذاجة، تمعني في نظراتهم وأصغي إلى كلماتهم التي تخدش الروح. سأظل أمينة أن تكون لقمتي نظيفة ما دمت قوية وسلاحي التصميم وبسطة السجائر هذه وما أستطيعه وأترك الباقي لله عز وجل.

هكذا كانت تقول أم محمد، وتضيف:

– أكثر بائعات السجائر هنا أميات وتربية أزمة عنيفة اهتمت بالخبز أكثر من ضروريات مباحة ومشروعة كطريقة البحث عن الخبز نفسه، أتعامل معهن بطريقة أكسبتني هيبة وتقديراً رغم علمي أنهن يقلن عني في سرهن عكس ما يبدين، يتشاجرن كثيراً دون استخدام أياديهن خوفاً من تدخل الشرطة والتسفير بلا عودة، وهذا ما يكبح جماحهن كثيراً.

آثرت أن أحذو حذوها، هي شعرة من شعرات معاوية، لا صداقة عميقة ولا القطيعة، سلام، تحية حلوة، كيف الحال، لا أكثر من ذلك. لقد جاءت أم محمد عمان قبلي بثمانية أشهر ورسمت حياتها بنظام من خلال خبرتها، فاستطاعت أن تعيش كما يحلو لها ضمن الظروف القاسية. عمان عالم يشمر فيه جميعنا عن سواعده ليأخذ حصته من الحياة ويرسلها دولارات إلى أهله في مدينة الخوف والحصار.

توطدت إنسانيتنا وصرنا في بعض الأوقات امرأة واحدة. كانت تمتلك أشياء عديدة لا أملكها، جرأة، عدم الخوف، إقدام في المواقف الصعبة، لا مبالاة في مواقف تستدعي ذلك، جدال مع رجال الشرطة والجمارك تجعلهم يحترمونها، حاسة استشعار بمقدم الخطر فتخبئ السجائر في دهاليزها وتجلس كأنها تنتظر شخصاً ما، وعندما تكون البضاعة كثيرة نحملها ونهرب بين سيارات الأجرة في الموقف الكبير لنعود بعد ذهابهم ماجدات من بلاد النفط والنهرين نتاج حضارة عمرها ستة آلاف سنة. هكذا تمر الأيام بين انبساط نخلقه لنوازن الواقع المرير وحذر مشوب بالعطف على أنفسنا.

بدأت معرفتي بعمان تزداد يوماً بعد يوم، خلية نحل دائبة الحركة، وقلب كبير يتسع للجميع بأحلامهم ونزواتهم، بآمالهم وآثامهم بدون تأفف، بدأت أمد جسور الحب معها، وأشعل فوانيساً على الجبال المزروعة بالبيوت بالوادي الفسيح، وأرى فرحها وحزنها. أتمنى أن أضع رأسي على صدرك أو أضع رأسك على صدري لأسمعك، لكن قلبي ما زال غارقاً في طوفان أحزان قديمة لم تجففها الشمس بعد، ومشغولة بالبحث عن الخبز، تلك الآلهة التي تختفي من بيوت الفقراء. أحمل غصن الحياد في رحابك وأنعزل بين أكوام الثلج المتساقط وأشعة الشمس الساخنة، بين نسيمك وإعصارك. أشيح بوجهي عن وجوه أعرفها تمر مسرعة في الساحة الهاشمية، أتكئ على أم محمد وتتكئ عليّ وتحاسبني على كل فلس أصرفه في غير موضعه، وتعلمت منها، فتحت لي حساباً في البنك، حولت لي مبالغ إلى أولادي، وجلبت لي رسائل منهم نقرأها سوية نتكدر بين سطورها ونفرح لأخبار أخرى.

وقف رجل بثياب رثة ولحية بيضاء متشابكة دون ترتيب كأحراش مرت بها عاصفة،  زجاج سميك على عينيه مربوط بخيط ملون على إطار مهلهل ليشتري ثلاث سجائر مفردة، ونقدني بعد بحث طويل بمائة فلس. لم يك الوجه غريباً عني، لكن كراكيب الذاكرة مزدحمة بالأتربة والخوف من شيء ما. أين؟ متى؟ تطلعت إليه من جديد علّ نظراتي تكشف لي شيئاً وأنا أبحث في الظلمة، لكنه بادر بالحديث دون أي جهد.

– نستاهل.. اللي يزرع الريح يحصد عاصفة، أبعد هذا العمر نتسكع في شوارع عمان من أجل لقمة خبز؟ أبعد تلك السنوات الطويلة من العمل وخدمة الحزب يصبح مصيري هكذا؟

عندما وجدني أذناً صاغية له وأنه شد انتباه أم محمد التي وجدت شيئاً يقتحم حواجزنا لتتفرج عليه، انفتحت نفسه للحديث وبدأ يتقيأ معاناته.

–  كنت معلماً، خدمت الحزب بكل ما أملك من قوة ووقت، جندت الطلائع،  ألقيت عليهم محاضرات، كسبت أفراداً جدداً للحزب حتى أصبح التنظيم أضعاف ما كان عليه، حصلت على شكر من الفرقة الحزبية في بادئ الأمر. حفزني هذا الشكر إلى أن أعمل أكثر، عندما وجدوني حمار شغل حملوني ما شاؤوا، فكنت مطيعاً لأي عمل مهما كان شكله ودرجة وساخته. عندما جاء الجوع لم يسمع نداء استغاثتي أحد. في البداية أعطوني مبلغاً من المال لا يملأ معدة أطفالي يومين، صرخت، بكيت عند مسؤولي فلم أسمع منه إلا كلمة: اسرق، اعمل أي شيء، إمكانياتنا لا تفي. سرقت مرة، وسرقت ثانية، ألقي القبض علي وشهروا بي، اللص الذي سرق حفنة رز. أولاد الكلب، سرقوا البلد بكامله ولم يلق القبض عليهم. جئت عمان أملاً بعمل، وجدت الآلاف مثلي أردنيين وعراقيين يبحثون عن عمل. 

وددت لو أسأله عن حسين وسعد أولادي الذين أضاعهم في حزبه، وتركني لله وحده بقلب كسير، لكنه كان أداة تنفيذ فما يفيد عتابي بعد أن تكسرت كل الجسور الزجاجية.

العصافير تزقزق فوق الأشجار ونفس الشمس التي تشرق هناك تمر بنا، الصغار الأمانة التي وضعها القدر في عنقي، يكبرون، يتسلقون الحياة كاللبلاب في قلبي. العمل ما زال جيداً، فارق العملة جعلني أرسل إليهم مائة ألف دينار عراقي شهرياً. أخبارهم تبعث في نفسي الراحة والفرحة، تجعلني أقبل أم محمد بعد الانتهاء من قراءة الرسالة، أمطرها بالقبلات، نرحل سوية إلى الجحيم أو الفردوس. كم كبيرة هذه المرأة الحازمة المخادعة الطيبة ذات الأسرار البسيطة، تأخذني إلى صدرها كطفلة صغيرة مع كل أزمة حنين وبكاء تنتابني، تمسح دموعي وملح التعب الفضي الذي يعلق بجبهتي. أغرقتني بكرم قيدني بسلاسل من حرير فأحس بعض الأحيان أني أتبعها.

في ظهيرة يوم قائظ طرق الباب خرجت مسرعة لتعود مسرعة والخوف يركبها، يخضها ليقلب جملها وهي تؤشر على الباب الثانية وخلفها رجلان مهندمان: 

– أنت متأكدة من أنها غرفة عفاف وشريفة؟

– كل التأكيد.

–  من يسكن معك؟

– أم حسين.

–  موجودة معك الآن؟

–  نعم.

–  نادي عليها.

كنت أستمع للحديث فخرجت مضطربة فتعثرت بالهواء لأستند الحائط. 

–  نريد أن تكونا شاهدتين على تفتيش الغرفة.

استعدنا جزءاً من عافية مخنوقة ونحن نسير خلفهما وهما يفتشان غرفة فارغة إلا القليل من سقط المتاع، لكزتها أن تعمل شاياً بسرعة وأنا أجمع قوتي للاستفسار عن السبب.

–  سارتا في طريق الخطأ وامتهنتا السرقة أيضا.

استطعما الشاي العراقي ومدحاه دون أن يأخذا شيئاً من الغرفة البائسة.

– وأنتما ماذا تعملان؟

– والله العظيم نبيع سجائر في الساحة الهاشمية. هتفت أم محمد.

– لا ترتعبا، نحن نطارد المجرمين فقط.

سألانا أسئلة عادية عن حياتنا في العراق ولم ينسيا أن يشكرانا على الشاي مع أماني طيبة وهما يخرجان. احتجنا وقتاً لإعادة السكينة إلى أعماقنا فالتفتت أم محمد إلي قائلة:

– ألم أخبرك إن الابتعاد عن الناس وفي مثل هذه الظروف رحمة يرسمها الإنسان لنفسه. فحمدنا الله على ما نحن فيه.


الكابوس الذي لسع كبرياءها

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.