اللوحة: الفنانة الروسية ناتاليا جونشاروفا
د. مصطفى الجوزو

يسمي العامة في لبنان مؤجّر الدراجات ومصلحها «بسكلتجي»، وهو تركيب تركي بطريقة لبنانية، وقد أصبحتُ بسكلتجياً هذه الأيام! كيف ذلك؟
لي دراجة هوائية، جعلتها في المكتبة فوق رافعة قليلة الارتفاع، مزودة بما يمكن تسميته كابحاً، وذلك الكابح يحتك بإطار الدراجة الخلفي، فيجعل دورانه صعباً لتنتفع عضلات القدمين والبطن من الجهد الذي يقتضيه تحريك الإطار. لكن الظروف السيئة حالت دون استعمالي لتلك الدراجة عدة أشهر.
وفي رمضان هبط وزني بصورة ملحوظة، فسررت لذلك، لكن الوزن أخذ يزداد يوماً بعد يوم بعد ظهور هلال شوال، فقلت لنفسي: لعل العودة إلى دراجتي المهملة تنفع في لجم ذلك الازدياد، وكانت الصدمة! إطارا الدراجة المطاطيان فارغان كلية من الهواء. نفختهما عدة مرات لكن سدى، فأيقنت أن علةً ما قد أصابتهما.
بعد مدة فصلتهما عن الهيكل ومضيت بهما إلى دكان التاجر الذي باعني الدراجة، وإذا أحدهما مصاب بسلسلة ثقوب في جزئه الداخلي، فأبدلت منه أطاراً جديداً، أما الثاني فمصاب بثقب واحد فآثرت أن أصلحه بنفسي. عجت أبحث عن لاصق ومطاط خاص من أجل ذلك. وبعد جهد وجدت تاجراً زودني ما أحتاج إليه في هذه العملية الجراحية.
بعد أيام قررت بدء العملية. جعلت شرفة المنزل غرفة عمليات مكشوفة، وجعلت زوجتي طبيباً مساعداً. وضعت اللاصق على ثقب الإطار وجعلت فوقه قطعة المطاط الخاصة ومارست الضغط المطلوب عليهما، والإطار صامت لا يشكو ولا يعترض. حان بعد ذلك وقت إدخاله بين الإطار المعدني والإطار الخارجي، ولن أخبركم بمقدار العذاب الذي عانيته لتحقيق ذلك، وهو أمر ينجزه «البسكلتجي» في ثوان. لكنني نجحت بعد مجاهدة وعنف ترك فوق يديّ خدوشاً دامية مع أن الدراجة لا مخالب لها. نفخت الإطار فامتلأ وبدا سليماً، لكنني آثرت عدم إدخاله في الهيكل قبل الاستيثاق من صحة الإلصاق. وفي الغد لاحظت أنه قد فرغ من الهواء من جديد، فاستللته وفحصته بالماء فتبين لي أن المطاط الملتصق به لا يزال يسرب الهواء، فأدخلت اللاصق السائل في مساربه ومارست عليه ضغطاً ولا ضغوط الدول الاستبدادية، ثم أعدته إلى مكانه بجهد يقل قليلاً عن جهد الأمس، فقد اكتسبت خبرة دراجية نافعة، ثم نفخته، وآثرت الانتظار مرة أخرى. وفي اليوم التالي خيب الإطار أملي، إذ أفرغ كل ما في أحشائه من ريح. استللته مرة أخرى وفحصته بالماء فوجدت أن المطاط الملتصق به ما زال يسرب الهواء، فأدخلت في مساربه السائل اللاصق من جديد، ثم أعدته ألى موضعه ونفخته وانتظرت حتى صباح اليوم التالي. ونجحت وأفلحت هذه المرة.
شكراً لتصفيقكم، ولكن مهلاً، فقد حان وقت إدخال الأطر في الهيكل وإدخال السلسة في الدوائر المسننة المتعددة. ما السبيل إلى ذلك وقد نسيت كيف كانت الدراجة قبل تفكيكها؟ يقولون: النقد سهل لكن الفن صعب، وفي شأن الدراجة أقول: النقض سهل لكن السدي صعب. لم يكن تركيب الأطر شديد الصعوبة، فقد هدانا الله بعد لأي إلى إنجاز ذلك، وإن تلطخت الكفّان والوجه بالسواد. بيد أن إدخال السلسلة في الدوائر المسننة كان الهم الأكبر. بدا أكثر صعوبة من تأليف حكومة لبنانية. قمت بعدة محاولات بلا جدوى. استدعيت زوجتي لعلها تشير عليّ برأي، فقد كانت تملك دراجة في صباها، ولعلها كانت تصلحها بنفسها أو ترى من كان يصلحها لها فتتذكر طريقة إصلاحها، وما كان أشد استنكارها لهذا الاستدعاء: وهل تحسب أنني كنت أبيع الدراجات أو أؤجرها للناس؟ وتركتْني في محنتي وحدي. فلا حول ولا قوة إلا بالله. واضطررت إلى تقليب الأمور بمفردي، وإلى استعمال حساب الاحتمالات، إلى أن وفقني الله إلى المهيع (إذا لم تكن تعرف هذه الكلمة فابحث عنها في المعاجم فتشاركني شئياً من التعب)، وسرت ظافراً إلى زوجتي أخبرها بالفوز المبين، لكنها لم تبد أي اهتمام. كان أمراً لا يستحق منها أي احتفاء.
استعملت الدراجة في الرياضة المنزلية بعد ذلك لبضعة أيام إلى أن خذلتني، وذلك أن المداس الأيمن سقط فجأة على الأرض وبقي حامله المعدني. التقطه وإذا فيه عدة شقوق. إنها نسبياً شقوق في أديم الشيخوخة. لن أشتري بديلاً منه، ولا سيما أن متجر الدراجات بعيد، وثمن البنزين باهظ، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك ثمن المداس؟ تركت الأمر، فلعلي أهتدي إلى طريقة لإصلاح هذا الجزء كما أصلحت قريبه، أعني الإطار. لا سبيل إلا لحم الشقوق بلاصق قوي، وفكرت في أنواع اللواصق واستنتجت أن أفضلها في هذه الحال لاصق الأحذية، وهكذا كان، ثم شددت المداس بملقطين معدنيين، وتركته ريثما يجف ويشتد التئامه.
وأزف وقت تركيبه، وهذه تجربة بكر مئة بالمئة. فحَصتُ الحامل المعدني، وقدرت كيف يُجعل المداس فيه، ثم فككت العزقتين (هكذا نسمي في لبنان الشيء المجوف، المسنن الجوف الذي نجعله فوق قضيب معدني أو خشبي مسنن أيضاً ونديره فتُداخل أسنانُه أسنان القضيب وتلائمها)، وأدخلت المداس في الحامل المعدني. حتى الآن بدا الأمر في غاية السهولة، لكن كيف كانت العزقتان قبل أن أفكهما؟ لا أدري. أما الحامل فهو في داخل المداس ولا يبرز منه شيء فأُدخل فيه العزقتين! أخرجت الدراجة من المكتبة إلى أحد ممرات المنزل وألقيتها أرضاً كما يلقي الجزار الذبيحة، واستنتجت أنه لا بد من عدة خاصة لإدخال العزقتين في الحامل المختبئ في المداس. قلبت كل المعدات التي أملكها فوجدت ضالتي بصعوبة، وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان.
لا تظنوا أنني وصفت هذه البلية العظيمة لأسليكم، أو لأسمع تصفيقكم، كلا، بل لأخبركم أنني صرت خبيراً بالدراجات، وأن من تتعطل دراجته يستطيع أن يتصل بي فأصلحها له بأجر معتدل، أراعي فيه روابط الصداقة، ولا استغل حال التضخم التي يمر بها العالم العربي. تضحكون؟ وهل رواتب أساتذة الجامعة اليوم أكبر من دخل «البسكلتجي»؟