اللوحة: الفنان الألماني أوسكار شليمر
رحاب إبراهيم

في الصف الرابع الابتدائي امتلكت لأول مرة علبة ألوان فلوماستر 12 لون، كانت هذه العلبة تدل على درجة مقبولة من الثراء تسمح بوجودي وسط العيال الذين يجلسون في الصفوف الأولى ويشاركون في الإذاعة المدرسية ومسابقات الأوائل.
وهي وإن لم تحتوِ على 18 لونا – مثل العلبة التي يمتلكها ولدان فقط في الفصل أحدهما أبوه يعمل في ليبيا، والآخر أمه مدرّسة في فصل ” تانية رابع” إلا إنها كانت أفضل مما يمتلكه معظم الأولاد والبنات من ألوان خشب وشمع أو علبة فلوماستر 6 ألوان لا تحتوي سوى الألوان الأساسية فقط ولا يعرف أصحابها درجات البرتقالي والبنفسجي والبمبي والأخضر الزرعي.
كنت أحب هذه الدرجات وألوان أخرى لم أكن أعرفها، وأحتار في أسمائها فأسأل أمي لتجيبني بأسماء غريبة أخاف أن أنطقها أمام أصحابي كي لا يسخروا منها ومني ومن أمي، لذا لم أكن أنطق التركواز والبيستاج والبترولي, وأكتفي بقول أخضر فاتح أو أزرق غامق وهكذا.
كنت أحب جدا الأصفر المتوهج كي أرسم به الشمس، ودرجات الأخضر كي أرسم الزرع متنوعا كما نشاهده في الحديقة، لكن المشكلة الكبرى كانت أنني كلما رسمت صورة تلطخت أصابعي وربما ملابسي وكذلك أطراف الورقة وخرج اللون عن حدود الرسم.
هكذا دوما وجب علي الاختيار ما بين إنجاز لوحة أحبها بألوان زاهية تضيع معها الحدود بين الأشياء التي ألونها وتسبب قدرا لا بأس به من الفوضى، أو استخدام ألواني الخشبية التي احتفظت بها من السنة الماضية لأرسم لوحة مضبوطة وباهتة ولا تسبب أي بقع.
لم أستقر أبدا على اختيار.. تأرجحت ما بين الحالتين، حسب مزاجي أو مزاج معلّمة الرسم أو مزاج أمي، المهم أنني أبدا لم أستقر. كانت هذه حيرتي الأولى التي حملتها معي طيلة السنة تقريبا، حتى تصادف أن غاب ولد من الجالسين في الصف الأمامي وطلبت مني المعلمة الجلوس مكانه كي يبدو الصف مكتملا حين يأتي المدير لزيارة فصلنا.
الولد الجالس على يميني كان يمسك علبة ألوان فلوماستر 12 لونا فحمدت الله في سري أنني لن أبدو أقل منه في شيء، لكن ما إن بدأت حصة الرسم حتى تراقصت أصابعه على الورقة بسلاسة دون بقعة واحدة على يديه أو على الورقة! أصبت بالذهول، وأخذت أنظر إلى علبته ثم أنظر إلى علبتي، استأذنته في استخدام قلمه الأصفر كاذبا بأن قلمي خلص، أخذت قلمه ورسمت خطوطا ودوائر وملأت الشمس وشمسا أخرى ولم يحدث أي بقع ولم يغادر اللون حدود الرسم الذي حددته. أعدته إليه سائلا من أين اشترى علبته فلم يعرف.
عدت إلى المنزل وبداخلي غضب كبير، غضب من تعرض لخدعة كلفته حيرة طويلة بين اختيارين بائسين بلا سبب. واجهت أمي.. لماذا اشتريت لي هذه الألوان ومن أين وبكم؟
استقبلت أسئلتي باندهاش وأشارت إلى طعام الغذاء على الطاولة “لا أذكر” هكذا ردت.. لماذا تسأل؟
لم أرد.. أعلم أن أمي تتعب كثيرا من أجلي وغالبا تحضر لي كل طلباتي وتحرص كل سنة أن أجلس في الصفوف الأولى، صحيح ليس في أول صف ولكن في الثاني أو الثالث على أبعد تقدير، تتصل بالمعلمة وتصاحبها كي تهتم بي، تحضر ثيابي نظيفة ومكوية مهما كانت متعبة بعد يوم عمل شاق وطويل.
لم أستطع أن أرد ولا أن أقول لها كل الكلام الذي أعددته لمواجهتها ولومها، نظرت إلى علبتي ولم أستطع رميها كما قررت، فلابد أنها تعبت كثيرا في النقود التي اشترتها بها، عدت إلى غرفتي صامتا محاولا ألا أشعر بالغضب ولا حتى بالحزن.. أنا فقط كنت أود لو عرفت مبكرا أن هناك علب ألوان لا تسبب البقع ولا الخوف.