اللوحة: الفنان المكسيكي دييغو ريفيرا
هل نحتاج للمناداة بشيزلونج لكل مواطن؟
كنت في زيارة لأقربائي في قرية مصرية، فلاحظت في تلك السنة نشاطاً صاخباً وحوارات عنيفة بين غالب أهل القرية. تسمع نقاشاً حامياً، وترى أوداجاً منتفخة، وعيوناً تطلق شرراً.
تعجبت لهذه الظاهرة الغريبة، والتي تتناقض مع طبيعة أهل القرية من الكرم والود والرحمة.
سألت ابن عمي: لماذا انقلب الحال؟..
فأخبرني أن في تلك الأيام انتخابات العُمودية، والمنافسة مشتعلة بين فلان وفلان… قلت: لكل واحد عائلته التي تسانده؛ ما الذي أدخل بقية أهل القرية في هذا الصراع المتوتر؟ فأخبرني أن القرية تمتلئ بالحزازات الفردية بين الناس.
هناك التعاملات المالية، وصِلات النَسب وما يُعكرها، والصراع على الميراث، والتشاحن بسبب الري، وحدود الأرض الزراعية، وأيضاً الغيرة الطبيعية بين القرناء، وأشياء أخرى كثيرة، تتواجد بتواجد المجتمع الإنساني.
هناك إثارة للمشاعر واختلاف في المواقف، يمتلئ قلب هذا وقلب ذاك، ومن امتلأ قلبه لا يستطيع أن يَصُبه كله، فيَتبقى في القلوب مشاعر ونِيات، لا يستطيع أن يُخرجها حَياءً أو رَهْبةً، ينتهز أهل القرية مُناسبة الانتخابات لِتَفْريغ ما يستطيعون من تلك الشحنة النفسية.
يَتَربص كل فرد بخصمه… وبمجرد أن يُعلن أحد الخصمين انحيازه للمرشح الأول يُسرع الآخر بإعلان انحيازه للمرشح الثاني، ثم تبدأ معارك تفريغ الشحنات.
هل نتذكر ذلك المشهد المسرحي المتكرر، عندما يقوم كل من الزوج والزوجة ساعة الخلاف، بالشجار العنيف من خلال الخادم، هذا يسبه وهذا يلكمه، والخادم الذي اعتاد على تلك الوسيلة للتنفيس، يقف مستسلماً لدوره، يتلقى اللكمات المادية واللفظية، مستسلماً كقناة لتفريغ المشاعر، وهو يطمع في النهاية أن يكافأ من الزوجين بكرمِ فيما بعد، هذا هو حال قريتنا اليوم.
فالكل لا يستطيع أن يواجه خصمه بالسبب الحقيقي لعداوته له.. لأن هذا يُخجله، فيتعلق كل منهم بمناسبة الانتخابات… ليخرج كل ما عنده في جُرأة وتَبجح… دون أن يتلقى لوماً من أحد.
استمعت لحديث بن عمي، بينما تتراقص أمام خاطري عشرات المشاهد المماثلة تلك الحالة، حيث تَخرج كثير من المشاعر متخفية في قناع مُسوغ للجميع، وتذكرت لنفسي مواقف مشابهة انحزت لأحد الأطراف غطاء لمشاعر مكبوتة، لأن المشاعر حين تخرج عارية تُخجل أصحابها، هذه الدنيا…. وهؤلاء الناس… مُركب معقد من الضعف.
في هذه القصة لطائف مهمة وجوهرية:
أولا: ما تحمله النفوس من مشاعر وانفعالات تَخجل أن تطلقها وتَعجز أن تقاومها ولا تستطيع تجاوزها، فتظل مثل التجمعات الصديدية التي تُحبس داخل الجسم وتظل تؤلمه ولا حَل إلا خروجها منه.
ثانيا: الخجل منها ومن جديتها، مثل من يخجل من بقع سوداء أو زوائد جلدية في مناطق حساسة بجسده، فلا يجد الشجاعة أن يخبر بها أحد أو يستعين عليها بطبيب فتظل بداخله يَشقى بها.
ثالثا: حين تؤاتيه الفرصة لإخراج صديدها، يُخرجه من وراء قناع، فتخرج في صورة غَضب وصراخ وربما سِباب، والمعنى في بطن الشاعر كما يقولون.
هذه الأعراض منتشرة فينا وبصور شتى تتلخص في مصطلح النَفسنة، وهي تنبع من ضعف نفسي وخجل اجتماعي وجبن عن المواجهة.
وهي السر في أننا كثيراً ما تنفلت منا سلوكيات ومواقف غير مفهومة حين نُرجعها للموقف الذي تزامن معها لا نجد أي علاقة بينهما، فرد الفعل لا يتناسب أبدا مع الموقف الأخير، ويحتار المرء كثيراً، ثم يهز كتفيه عجزاً عن الفهم.
ويتبقى أن نتساءل ما هو العلاج لتلك المشاعر الضارة؟
الحل هو الانتباه لها بداية من تسللها إلى نفوسنا نتيجة ما نظنه إهانة أو حَسد أو سوء ظن، نقاومها في بدايتها ونطهرها باستدعاء إيماننا بالله، وبالتسلح بحسن الظن والتغاضي والعفو والعذر.
وإن لم نقدر فلا نَكْتُم، نعترف بما نبت في قلوبنا ونُقدم على المصارحة، فنصارح الآخر بالكلمة أو الموقف أو الإحجام الذي تسبب في أذى الشعور وسبب الحرج والضيق، وفي المصارحة تنفيس وإصلاح، ويحتاج شجاعة لا بد من استدعائها.
