اللوحة: الفنان المغربي عبد الرحيم فشتالي
حين ناديته، لم ينتظر “الشيخ حسني” أن أعيد النداء، إذ قطع الطريق إليّ في ثلاث قفزات متتاليات واسعة سريعة، حتى أصبح أمامي، لم ينهج، لم يهبط صدره ويعلو، لم تتعرّق جبهته، فقط حلّت بوجهه ابتسامته الدافئة والتي تسبق دائمًا سلامه، قلت تعقيبًا على الوضع: مرحبًا بك، لا تزال شابًا نحسدك على لياقتك الجسدية هذه.
هزّ رأسه بحبور تجاوبًا مع مجاملتي له، أكملتُ حديثي وأنا أفسحُ له مكانًا جواري على الرصيف، قلت: ثم انّي أغبطك بشكل شخصي على مهارتك في مساعدة الآخرين على عبور الطرق السريعة، على ترجمة الأفلام الأجنبية بصورة ترضيكَ، دون أن تعبأ بمن حولك، دون أن تعير اهتمامًا بالترجمة المكتوب على شاشة العرض. لك شأنك الذي توليه عنايتك الكاملة، عالمك الذي صنعته بقدرتك.
لم يبارح الشيخ موضعه، ظل يدير رأسه طربًا من كلامي، لم أملك رفاهة الوقت أن أخبره أنني أقول الحقيقة ولا غير، لكني وفّرت وقتي الثمين في توصيل رسالتي إليه.
قلت: يا شيخ، أنت أجرأنا، أكثرنا مواجهة مع النفس والناس. لقد أذهلتني بشدة حينما عرّيتَ الجميع من أوراق التوت التي تخفي عوراتهم، لم تبقِ على أحد منهم، حتى أنكَ نزعت عن نفسك ما يواري سوأتكَ، ثم وقفت مع العراة في حفرة واحدة، كيف تخلّصت من نقاط ضعفك هكذا؟ هل بمقدور المرء أن يتطهَّر من إدمان المخدرات والنساء، يقع في ما هو أخطر.. أن يدمن قول الحقيقة على إطلاقها؟
ثم تداركتُ أن الرجل لا يزال واقفًا، فاعتذرت إليه، قلت: مثلك لا يستأذن في الجلوس، كما أنك صاحب بيت، المكان ملكية عامة لك فيها حق شأن الجميع هنا.
قال: عهدتك لبقًا في القول والفعل.. ثم سكت
قلت: عفوًا يا شيخ حسني، هل تجاوزت قدري معك؟
أجاب: إنما يخشى الأعمى الطرق الغريبة فلا يرتادها دون معونة، ينفر من الأماكن التي لم يعتدها، فلمّا لم تأخذ بيدي، فقد أمسكت عن التقدم واكتفيت بالوقوف عند العتبة الأولى.
لم أدر ما أقول.. لقد ظننت جميع عمري الفائت أن “حسني” هو المبصر الوحيد بيننا من كثرة ما أخذ بأيدينا، حكي لنا ما لم نكن نعرفه. كان يقول ما يؤمن به، كنّا نؤمن بحديثه ونؤّمن عليه كنصّ مقدّس.
لسنوات بعيدة مضت، بات هو النافذة الوحيدة التي نطلّ منها على العالم. لذلك حيال هذه الأزمة لم أجد غير أن أضغط زر الإغلاق من “الريموت كنترول” الذي لا يبارح جيبي أبدًا.. عندئذ انطفأت الشاشة وانقطع استرسال الفيلم، ثم تبخّر الشيخ عبر الأثير، وإن بقي أثره بيننا كأحد آلهتنا القدامى.
