سوسن يوسف
اللوحة: الفنان النرويجي سفين جورجينسن
في ذكرى رحيل الوالد الحبيب إبراهيم يوسف
النص من وحي الكاتبة والصحافية الأمريكية الراحلة «إيرما بومبيك»
لم يكن أبي يفعل شيئا فعلام أحن إليه وأفتقده الى هذا الحدّ!؟ عندما كنت صغيرة بدا لي أن الأب يشبه مصباح الثلاجة. في كل بيت ثلاجة وفي كل ثلاجة مصباح؛ لكن أحداً لا يعرف على وجه الدقة، كيف يقضي المصباح وقته في الداخل، وما الذي يفعله حينما ينغلق عليه باب البرَّاد؟
كان أبي يغادر البيت كل صباح، وحينما يعود مساء كان يبدو لي أنه سعيدٌ برؤيتنا من جديد. كان يفلح في فتح سدَّادة وعاء المخللات على المائدة، حينمايعجز عن فتحها الجميع. وهو الوحيد في البيت الذي يتحلى بالشجاعة الكافية، فلا يخشى النزول إلى القبو بمفرده وسط الظلام.
حينما كان يحلق ذقنه يجرح أحيانا وجهه بالموسى. لكن أحداً لم يكن يتقدّم ليقبله أو يهتم بما حصل له. وحينما يمرض أحدنا نحن الأولاد، كان هو من يسرع إلى الصيدلية لإحضار الدواء.
في موسم الورد كان ينشغل بقص الأغصان اليابسة من الممر المؤدي إلى باب المنزل، فلا تربكنا الأغصان الزائدة. يتعرق جبينه ویعاني من وخز الأشواك في أصابعه ويديه طيلة اليوم.
كان يتولى تزييت عجلات زلاجتي، لكي أتمكن من الجري على نحو أسرع. وحينما اشترى لي دراجة كان يركض إلى جانبي طويلا. لعله قطع آلآف الأميال قبل أن أتحكم بالدراجة بمفردي.
هو الذي كان يوقع بيانات علاماتي المدرسية، يبتسم لي ويربت على ظهري، وقد صوّرني آلآف المرات؛ دون أن يظهر معي في صورة واحدة. كان أيضا يشد حبال الغسيل المرتخية لأمي.
لطالما أخافني آباء الأولاد الآخرين، وحده أبي كان لا يخيفني. أعددت له الشاي مرة وكانت الشاي مُسْتَهْلَكَا بفعل استخدامه للمرة الثانية. وما أعددته كان لا يزيد عن ماء محلى بالسكر بلا نكهة ولا لون. مع ذلك جلس في مقعده وبدا لي مرتاحا، وأخبرني أن الشاي كان لذيذاً حقاً.
عندما كنت ألهو بلعبي؟ كنت أوكل للدمية الأم مهمات كثيرة لا تحصى، وأجهل ماذا أُسْنِدُ من الأعمال للدمية الأب، لذلك كنت أتصوره يقول: إنني ذاهب للعمل الآن، ثم أقذف به تحت السرير.
ذات صباح مشؤوم عندما كنت في التاسعة من عمري، نهض الجميع وحده أبي لم ينهض ليذهب الى العمل كالعادة، بل قدمت سيارة الإسعاف لتحمله إلى المشفى؛ ووافته المنية في اليوم التالي.
وحينما أويت إلى حجرتي مساء، تلمست ما تحت السرير وأنا أبحث عن الدمية، وحينما وجدت الدمية الأب، نفضت عنه الغبار ووضعته على الفراش، ووسادتي الناعمة وضعتها تحت رأسه.
لم أكن أتصور أن رحيله سيؤلمني لهذا الحد! واليوم أفتقده وغيابه يوجعني ويستنزف آهتي ودمعي.