صديقي

صديقي

اللوحة: الفنان الألماني إرنست لودفيج كيرشنر

لم أقابل في حياتي مثل صديقي في إحساسه وذوقه، كان يطارد كل جميل، وكأنَّ له قرون استشعار غريزية تلتقط إشارات الجمال، لهذا كنت محظوظا بصداقته، نادرا ما يكون الجمال صادحا مثل الشمس، وغالبا ما يتخفى وراء أستار ومخابئ، ليُحَفِّز فُضول واجتهاد عُشَّاقه، وحين يلتقطه صديقي، لا بد أن يشاركني فيه.

في بدايات الشباب كانت تَجْمعنا غرفة الصالون في منزل والده، قال لي وهو يريد مفاجأتي: “سوف أسمعك شيئا رائعا”، لم تكن مفاجأة غير متوقعة، فأنا أعلم أنه يكثر السفر إلى القاهرة هذه الأيام، لا بد أنه يبحث عن شيء نادر كعادته ليحوذه، أخرج الكاسيت ووضع فيه الشريط – لم يكن الدش والموبايل والنت قد ظهرت بعد – قال: “سوف أسمعك أغاني لم تسمعها من قبل”.

أسمعني أغنية (عدى النهار) بصوت حليم وأشعار الأبنودي وألحان بليغ حمدي، كانت معاهدة السلام قد وقِّعَت منذ سنوات قليلة، وكان من شروطها منع إذاعة الأغاني الوطنية، وهناك شروط أخرى تتحسس إسرائيل أن تكون سببا لبعث روح العداء للصهاينة، خصوصا أغاني عبد الحليم حافظ، وعبد الوهاب، سمعت الأغنية وكأني في عالم سرمدي، كيف استطاع هذا الرجل أن يبدع تلك الكلمات:

“وبلدنا عا الترعة بتغسل شعرها”

“جاها نهار ما قدرش يدفع مهرها”

ثم أتبعها صديقي قبل أن يتلاشى السحر عني، بأغنية “أدهم الشرقاوي” لعبد الحليم، وما أحلى الموال؛

“يا ادهم وصابك رصاص الغدر جوه القلب”.

“وقعت يا ادهم”.

“ولو كان الرصاص له قلب… ما كانش صابك”.

“وكان ارتد على الاعداء”.

“يا خسارة يا ادهم”

ظل يتردد على بائع الشرائط الممنوعة حتى كون المجموعة المهربة كلها، وكانت فاكهة سمرنا معا.

واليوم وبعد مرور سنوات طويلة من حياتي، وتقاعدي وظيفيا لتجاوز سن الستين، حين أظن أنني وحدي أتغنى بهم، فيسمعني أبنائي ويضحكون كثيرا، يتعجبون من هذا المشهد الغير مألوف لأبيهم ذو الصوت الخشن، واليوم قد أصبحت تلك الأغاني متاحة للجميع مجانا على النت، ولكن الوفرة تأخذ من حظ المتعة، ولهذا يندر من يلتفت إليها.

كان يحب الحيوانات الأليفة، عنده قطة سيامي عجوز، يزينها ويضع حول رقبتها عقد ذهبي خفيف، وحين ماتت ناله حزن عميق، وقد كنت ألومه قائلا: “هذه عاطفة حولاء، فما تنفقه من مال على رفاهيتها، الأولى به فقير أو مسكين”، ولكنه كان يرد بأنه يتعسر على مثلي، من ذوي المشاعر الغليظة أن يترقى ليفهم مشاعره الرقيقة، فأصمت.

لكنه في يوم قال لي: عندما ننظر للحيوانات والطيور نجد منظرا غريزيا متكررا فيها جميعا، الملاطفة والتدليل وخاصة في الحَمام والقِطط. ويكثر في الأفلام الأجنبية مَشاهد تدهشني وتعجبني، فالزوج يجلس وبجانبه زوجته ويده على كتفها تشتغل طوال الوقت، ضم، تربيت، لمس لطيف، وتتناثر القُبلات السريعة والعميقة على مدار اليوم بلا توقف، وبالمثل يمنح الأب والأم أولادهم وبناتهم قبلات وأحضان ولمسات متتالية، هناك معلومة جوهرية نسيناها وأنكرناها نحن العرب، أنَّ الإنسان يحن ويأنس وتنتعش روحه باللمس، الإنسان يجب ألَّا يُترك في وحشة بلا تلامس، قليلا ما نحضن بناتنا ونمسح رؤوسهم وظهورهم، ونادرا ما نفعل مع أولادنا، ولا يقوم الزوج وزوجته بتبادل اللمس إلا بعد التأكد من غلق الباب، التلامس والأحضان المعبرة عن الود البريء يجب أن تعلن في الأسرة، ويجب أن نفرق بينها وبين التي وراءها الجنس وتُفضي إليه، هذا الاحتراس أوصلنا لمشاعر برِّية.

كثير منا لو لمسته يد عشوائية يرتعش وينتفض ويَنْفر، لو رصد أحدنا كَمّ التلامس الذي يطوله لكانت النتيجة مفاجأة، ولظن أن هناك حكم يقف بالصفارة ليعلن تسجيل مخالفة على من يلمس الآخر، تراجع كثيرا حضن الصديق والأب والقريب والزوج وانكمش الناس للوراء، وتتراكم مشاعر الاغتراب والوحشة والجفاء والجفاف على جلودنا.

ثم التفت إليَّ قائلا: ولهذا أيها العبيط كثرت ظاهرة اتخاذ القطط والكلاب، تُربت عليها وتدللها وتحضنها وتفضي إليها بأسرارك، لأن قنوات تفريغ العاطفة أصبحت جافة ومسدودة، فكان البديل هذا الحيوان الأخرس، الغريب أن هذا الحديث صدر منه حين كنَّا شبابا لم نتزوج بعد، فكنت أتعجب من أين تأتيه هذه الحكمة المبكرة.

ومن طباعه الغريبة أنه يستحيل أن يجلس في الكافتريا بالكلية ويتناول طعام، وحين أسأله عن ذلك يقول: “هذا يخدش الرومانسية”، وكان لا يستسيغ رؤية أي فتاة تلتهم ساندويتش في الكلية بين المحاضرات، وحين أجادله بأنَّ هذا تكلف وتبرؤ من بشريتنا، يزهد في مجادلتي لأنه يعرف عدم جدواها.

من يعلم هذه الصفات فيه لا يتخيل أبدا أن يكون عنيدا، ولكنه كان عنيدا في شيء وحيد، كان يرفض أن يُهزم حتى لو كانت مباراة شطرنج، وكان من عادتي حين أفقد قطعا كثيرة أو قطعة هامة أن انهزم مستسلما، فأنهي الدور سريعا، فالمقاومة مؤلمة وهذه مجرد لعبة فلا داعي أن أتعذب بمشاعر الهزيمة طويلا، وكان صديقي عكس ذلك تماما، حين يفقد كل قطع الشطرنج ولا يتبقى سوى الملك وبضعة عساكر كان يستمر في اللعب ببطء ويطيل، يأمل أن يتسرب الملل إلى نفسي فأغفل، وحين أهزمه يغضب وربما لا يستطيع النوم، وكنت أتعجب، كيف بمن يمتلك تلك الرومانسية أن يملك هذا العناد في مجرد لعب.

في صبانا كنا مغرمين بتعلم الإنجليزية، ونذهب إلى الأماكن السياحية لنجري محادثة مع الأجانب، وفي يوم كنا بالمتحف المصري، فأشار إلى سائح يُمسك بكتاب ويتأمل مومياء فرعونية، فأشار إليَّ أن اذهب إليه وأتحدث معه بالإنجليزية، فلم أنتبه للمقلب، وذهبت إليه وتطفلت عليه، فأعطاني ظهره وهو يكلمني، وحين سألته عن رأيه في معاملة المصريين له، قال لي: المعاملة لطيفة ولم يضايقني سواك!، فأحسست بحرج شديد وشكرته وانصرفت، وعدت لصديقي فوجدته يكاد يقع على ظهره من الضحك.

حين تجاوزنا الخمسين، كان يتشدق بأن صَلعته وتجاعيدَ وجهه تُغلف قلب شاب، فمازال يعشق الأغاني والموسيقى التي كنا ندمنها في شبابنا، وكنت لا أسمع هذه الأغاني إلا عنده، وأتعجب منه وهو يهتز طربا ويذوب وجدا وهو سكران، بينما لا يكاد يصلني من هذه الموسيقى إلا تيار ضعيف من المتعة القديمة، فأعجز أن أرقى لمثل استجابته.

وفي يوم عاجلته بالسؤال متفلسفا:

– لو اعتبرنا الحب طاقة شريفة، فمن أين تنبع؟

– تنبع من الشعاع الذي ينبعث من الجميلات والحسان فيخترق القلب ويملكه.

– وهل كل الجميلات يُرسلن هذا الشعاع؟

– لا بالطبع. بل الكيمياء والأشواق الخاصة والميول للجمال بكافة أنواعه.

– هل كلنا يصلح للحب؟

– هل كلنا يستحق الحب؟

– هل كلنا يعرف كيف يحب؟

– هل الحب مهارة أو انفعال؟

فنظر إلي شذرا وشتمني ثم فتح التليفزيون ليشاهد نشرة الأخبار.

في السنوات الأخيرة انتابته حالة صوفية عميقة، كان يصلي بالبيت نظرا لظروفه الصحية، يصلي والمصحف أمامه، حفظ بهذه الطريقة كثيرا من القرآن، أصبحت الصلاة بالنسبة له معايشة وروح وأنس، وحين تعتل صحته أو تضعف همَّته ينهي الصلاة سريعا، فقلت له يوما: – لماذا لا تُعيد الصلوات التي تضطر للإسراع فيها!

وكنَّا قرأنا أن بعض الصالحين كانوا يعيدون الصلاة التي تكون متعجلة وبلا خشوع في أوقات تالية، فقال لي مقولة أدركت كم نال من فقه القرآن وروحه: أنا لا أنظر ورائي.. ولا أعيد بضاعتي التي ييسرها الله لي.. بل أحسن في الآتي ولا التفت إلى ما فرط مني.. بل أنني أفَضِّل أن أقابل الله ببضاعة مختلطة وناقصة، لأن فيها ممارسة للعبودية والبشرية.. والكمال لله.

ثم ضحك وقال لي بلهجة أقرب للتوبيخ: وهل تعتقد أن العملة التي نعامل الله بها هي تلك الركعات؟، هذه الركعات غلاف لجواهر، والجواهر لا تُقَدَّم عارية بل مَحْمولة في أغلفة ورسوم.أدهشني كلامه وأحسست بطفولتي أمامه.

وفي يوم مرض صديقي فجأة بدون مقدمات، ولم يعاني طويلا، تركني وحيدا مُخْلفا فراغا لم أستطع الإفلات من وحشته، فالصداقة التي تكونت في عقود طويلة لا يمكن تعويضها، رحم الله صديقي.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.