اللوحة: الفنان السوري محمد الأحمد
د. مصطفى الجوزو

هذا المساء فقط عرفت لمن هذا البيت:
لقيتُها ليتني ما كنت ألقاها
تمشي وقد أثقل الإملاقُ ممشاها
فقد كنت أطالع صفحة لطالب من طلاب صداقتي على الفيسبوك، وإذا هو يروي القصيدة التي جاء هذا البيت مطلعها، ذاكراً أن صاحبها هو الشاعر العراقي معروف الرصافي. ذلكم ليس الموضوع، بل علاقتي بالبيت.
لقد كنت طفلاً حين سمعت أخي الذي يكبرني بثلاث سنوات، وهو يردد هذه القصيدة ليحفظها، من غير أن يسمي صاحبها، فحفظت مطلعها واكتفيت به، وتركت لأخي، أن يحفظ سائرها، وأن يعرف اسم قائلها، أو لعلي سمعت ذلك الاسم منه ثم نسيته.
ومضى الزمن، حتى كان ذلك اليوم الذي أجرت فيه المدرسة تجربة امتحان الشهادة الابتدائية، رحمها الله، وكان سؤال مادة الإنشاء العربي فيها: ألمّ بك مرض يوماً، فصف ما حدث لك وكيف تصرفت (أو ربما قريباً من هذا المعنى). ولا أدرى كيف عنَّ لي بيت الرصافي هذا، وإذا أنا ابدأ إجابتي بالقول: لقيتها ليتني ما كنت ألقاها، فقد ألزمتني الفراش لعدة أيام. وأنا أعني الحمّى لا الأرملة المرضعة المتسولة التي وصفها الرصافي في قصيدته.
وأكملت الموضوع على هذا المنوال؛ أي أنني استعملت ما يسميه بعض البلاغيين تشخيصاً، وأنا لا أعرف، يومئذ، أي شيء عن البلاغة في مصطلحاتها ومفاهيمها، وإنما صنعت صنيع الشعراء الذين قالوا قصائدهم قبل نشوء علوم البلاغة والبيان. وخير الشعر والنثر الفني ما جاء عفو الخاطر، بليغاً بمعزل عن علم البلاغة، جميلاً بمعزل عن فن التطرية والزينة.
وكم أثار الموضوع دهشة المصححين وإعجابهم، حتى طلبوا إلي إلقاءه أمام الصف كله، وأخذوا يطرونني، وطفق بعضهم يصفق لي ويصفق معه التلاميذ، وصاح المدرس الذي كان يراقب الامتحان: لولا أنني رأيتك بعينيّ تكتب الموضوع لاتهمتك بأنك قد نقلته عن بعض الكتب.
إنه يوم أفرحني كثيراً ولم يشأ أن يفارق ذاكرتي، ومن نافلة القول أنه زاد تشجيعي على ممارسة الأدب. واليوم فرحت مرة أخرى لمعرفة من ألف القصيدة، أو لتذكر اسمه، ليس لأنه زادني علماً فحسب، بل لأنه ردّني طفلاً بصورة مفاجئة أيضاً.