اللوحة: الفنان البلغاري سفيتلين كوليف
في الفيلم الأمريكي “العطلة” (the holiday) فتاتان، الأولى في أمريكا وهي فتاة ثرية وتسكن في منزل فخم، والثانية في بريطانيا وتسكن في منزل ريفي متواضع، كل منهما خاضت تجربة خيانة شخص تظن أنه سيكون شريك العُمر، تغمرهما كآبة وتفكران في السفر إلى مكان بعيد، تنشر الإنجليزية إعلان لمن يرغب في قضاء أسبوعين بمنزلها في عطلة الكريسماس، تقرأ الأمريكية الإعلان وتتفاوض معها، فتصر الإنجليزية على أنه إعلان تبادل سكن وليس إيجار، وهذا يعني أنَّ كل واحدة تسكن محل الأخرى لمدة أسبوعين، توافق الأمريكية الثرية وتسكن في المنزل الريفي المنعزل وتستعمل أدوات المنزل البسيطة ووسائل الانتقال البدائية، بينما الإنجليزية تحيا في مسكن أشبه بالقصر، وتتمتع بما في البيت من رفاهية.
حاولت تخيل هذا التبادل في مجتمعنا المصري فضحكت لأنه أقرب للخيال العلمي، فنحن نخاف على النِيْش والحَسد والأعمال السُفلية.
تصلح هذه الفكرة لسكان الإسكندرية والقاهرة وأسوان ومدن مصرية عديدة، لو نشأ موقع اليكتروني لتبادل السكن، يقوم بتدبير تواصل وعقد اتفاق بين الطرفين، فتتمكن الأسرة التي في الإسكندرية من السكن في القاهرة أو أسوان، مقابل ترك مسكنهم للأسرة الأخرى لفترة زمنية، وبهذه الطريقة تنخفض التكاليف المادية على الطرفين، وقد يطبق هذا على أفكار أخرى، مثل طالب يدرس بالإسكندرية وآخر في القاهرة أو المنصورة، يتم تبادل السكن أو تقوم أسرة كل طالب باستضافة الطالب الآخر سواء في منزلها أو في سكن تدبره له على أن تقوم برعايته، فلا يشعر كلاهما بالغربة.
مجتمعنا للأسف غير متحرك، ويرفض بنفور الأفكار الجديدة، ولكن مجرد الشروع في تطبيقها فرديا يُسَهِّل انتشارها.
قرأت عن صاحب مؤسسة صناعية كبرى، كان يعهد لأبنائه الذكور بالعمل في مؤسسته في الإجازات الصيفية، وبدأ في المرحلة الإعدادية بأن عهد إليهم العمل كصبي لساعي مكتب، يقوم بإعداد المشروبات وجلب الطلبات ويخدم الموظفين، وكان الأب يتعمد أن يجعلهم يَنْفِضوا المشاعر المصاحبة لهذا العمل حين يعودوا للمنزل، فيستردوا مشاعر أبناء الثري صاحب المصنع، وبمرور السنين تمرس الأبناء في جميع الوظائف “الخَدَمية – المالية – الفنية – الإدارية – القيادية”، وكانت النتيجة أنهم حفظوا المؤسسة وساهموا في تطورها، ونجحوا في خلق مناخ من الإخوّة بين الموظفين، لأنهم امتلكوا خبرة ومشاعر أصحاب كل الوظائف، ولم ينظروا إليها من الخارج، ويرجع الفضل للأب الحكيم الذي فكر خارج الصندوق.
أرملة تحيا في شقة وحدها ويتناوب أولادها على زيارتها والمبيت معها، ولها أخت أخرى تحيا وحدها في بلدة مجاورة، كلاهما يعاني فراغا أو اعتلال صحي، وحين عُرِضَ على كل منهن أن تنتقل لتسكن مع الأخرى، رفضت كل واحدة وقالت: “أنا لا أستريح إلا في بيتي”. هذا موقف من يتجمد داخل الصندوق.
في جلسة مع صديق قال: “أفَضِّل حين يحين الوقت وأحتاج رعاية خاصة، أن أنتقل لبيت رعاية مسنين، أنا لا أطيق الوحدة ولا الجلوس في البيت، ودار الرعاية توفر لي رؤية شخصيات كثيرة أسامرها وأتفاعل معها، وفي نفس الوقت لا أسبب ارتباك لحياة أبنائي، نعم هم أوفياء لي ولكن دار المسنين ستكون أفضل، ومن يريد رؤيتي منهم يزورني أي وقت.
هذا مثال للتفكير خارج الصندوق، بتخيل زاوية مختلفة للحدث، حيث المعتاد تخيل دار المسنين منفى ووحدة، وعلامة على تخلي الأبناء عن الآباء والأمهات، بينما تخيل صديقي الدار فرصة اختلاط بالناس وتنوع وحرية. قد لا يلائم خياره هذا شخصيات أخرى، ولكنه ضرب مثالا للتفكير خارج الصندوق.
القرب المكاني له ميزة كبيرة، فمن يتزوج جارته ويسكن قريبا من أهله وأهلها ينال ميزة، أعرف طلابا يسافرون للقاهرة لينالوا درساً خاصاً عند أحد المعلّمين، في حين يسكن في نفس الشارع من يستطيع أن يشرحه لهم بنفس المهارة، ولكنهم لا يعرفونه، وبنفس المنطق لو عملنا مسحاً في نفس الحي لعدة شوارع متجاورة، لاكتشفنا حالات متكررة لسيدات ورجال مسنين يعيش كل منهم في بيت وحده، ويتكفل الأبناء التناوب على رعايتهم، ماذا لو تعاونت الأسر على توفير شقة أو مكان فسيح في نفس الحي، وكأنها دار مسنين عائلية، تجمعهم في ظروف معيشية طيبة تبعث على البهجة والأنس، في هذه الحالة تتوفر لهم الرعاية والوَنَس ويتناوب الأولاد والأحفاد زيارتهم، وخاصة أنهم يعيشون في نفس الحي الذي عاشوا فيه شبابهم، كما يسهل لهم الانتقال للعيش مع أولادهم متى شاءوا ثم يعودون إلى الدار، وربما قرر أفراد من أهل المسنين خدمتهم، فيصبح الأمر أكثر حميمية، حيث يتواجد الأبناء والبنات والأحفاد مع المسن في المكان، يخدمون الجميع في عملية تناوبية بينهم.
هناك فيلم مصري يجسد التفكير خارج الصندوق بامتياز، ولكنه للأسف كان يحمل فكرة كالجوهرة وانحدرت لتتحول لفيلم كوميدي، فيلم “سيداتي آنساتي”، تدور أحداث القصة حول شاب حاصل على دكتوراه ويتقاضى أجرًا أقل من الساعي الموجود بالشركة، يقرر التقدم للعمل كساعي بهدف زيادة أجره، تُقرر أربع موظفات بالشركة الزواج منه معا، بهدف التغلب على أزمة الإسكان والأزمات الاقتصادية المختلفة، ولكن بشرط بقاء العصمة في أيديهن.
في هذا الفيلم كسر نمط تفكيري ثابت، حيث تقرر أربعة آنسات الزواج من رجل واحد بحيث تحل كل واحدة مشاكلها، فقد كانت الأولوية عندهن ليست الزواج، ولكن التغلب على عقبات وتحقيق أحلام أخرى متوازية، فالزواج قرار بجانب قرارات، وحاجة بجانب حاجات، وفي هذا الفيلم ضبط ما نعده غريزة في المرأة وهي الغيرة، ظهرت النساء بمظهر عاقل متزن وعملي، وفي نفس الوقت تراجعت العاطفة المفرطة لدى النساء، بالإضافة إلى أن فكرة العصمة بيد الزوجة تعبر عن فكر جديد، وهذه مشاهد خارج الصندوق، فكل النساء ضحايا قضبان حتمية الزواج والإنجاب كهدف وحيد للحياة، في حين أن ليس كل الرجال أو النساء يصلحون للزواج، وليس كل الرجال والنساء يريدون الزواج، ولكن في مجتمعنا تتوقف الحياة إن لم تتزوج أو تُنْجِب.
في “البخاري” قصة مدهشة، تحكي “أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بنْتَ أبِي سُفْيَان أخْبَرَتْهَا أنَّهَا قالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتي بنْتَ أبِي سُفْيَانَ، فَقالَ: أوَتُحِبِّينَ ذَلِكِ؟! فَقُلتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لكَ بمُخْلِيَةٍ، وأَحَبُّ مَن شَارَكَنِي في خَيْرٍ أُخْتِي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِي.”
قصة مدهشة وغير مألوفة وترسم لوحة غير معتادة لردود أفعال نسائية مختلفة.
هناك مثل يقول: “عندما تقع في حفرة توقف عن الحفر”، هذا المثل يعبر عن حال المصريين، لأنهم عبر عشرات السنين كلما وقعوا في حفرة واصلوا الحفر، وتمر الأيام والسنون، وكلما نظروا لأعلى وجدوا السماء تبتعد، ولا يخطر ببالهم التوقف عن الحفر.
نحن باجترار الأفكار داخل الصندوق نحفر ونهبط، ومثال ذلك إجراءات الزواج التي تزداد تعقيدا مع زيادة الأسعار وارتفاع سن الزواج وكثافة حالات الطلاق، في حين أنَّ المتوقع أن نفكر خارج الصندوق لكي نخفف المعاناة، من يرصد تطور حفلات الزفاف يدرك كيف نحفر كل يوم طقوس جديدة تكلف مزيدا من المال، ومن يرصد تطور ما تجلبه العروس من ملابس وما يسمونه رفايع، يرى زيادة في عدد الملابس وتكفي الزوجين سنينا طويلة، حتى أنَّ الأب يتساءل؛ وهل عليَّ أن اكسوهم لعشر سنوات مقدما، هذا الحفر في بئر طقوس الزواج جعله شاقا على غير القادر، بينما في الماضي كانت العروس تغادر بيت أبيها بصندوق به متاع، ثم تحول بجهلنا إلى صناديق تحملها طابور من العربات، تتكلف مئات الآلاف من الجنيهات، ولهذا فالنظر داخل الصندوق يؤدي للحفر في المكان وتعميق الأزمة.
في عام 1974 كان مهاتير محمد ضيف شرف في حفل الأنشطة الختامية لمدارس «كوبانج باسو» في ماليزيا. ذلك قبل أن يصبح وزيراً للتعليم في السنة التالية، ثم رئيساً للوزراء عام 1981، قام مهاتير في ذلك الحفل بطرح فكرة عمل مسابقة للمدرسين، وليست للطلاب، ثم طلب أن يأخذ كل مدرس بالونة وينفخها، ومن ثم يربطها في رجله، قام كل مدرس بذلك، جمع مهاتير جميع المدرسين في ساحة مستديرة ومحدودة، قال: لدي مجموعة من الجوائز وسأبدأ من الآن بحساب دقيقة واحدة فقط، بعد دقيقة سيأخذ كل مدرس مازال محتفظاً ببالونته جائزة، بدأ الوقت، وهجم الجميع بعضهم على بعض، كل منهم يريد تفجير بالونة الآخر، حتى انتهى الوقت، وقف مهاتير بينهم مستغرباً، وقال: لم أطلب من أحد تفجير بالونة الآخر؟، ولو أن كل شخص وقف من دون اتخاذ قرار سلبي ضد الآخر، لنال الجميع الجوائز.
وهنا أعطاهم درسا في التفكير خارج الصندوق، ففي مسيرة حياتنا، معارك طاحنة، كان من الممكن أن يحتفظ الجميع ببالونته، ويسعد ويأمن ويرضى.
