اللوحة: الفنان المصري عبد الهادي الجزار
سليم الشيخلي

أصبحت الفوضى المنتشرة في كل مكان والركض وراء كل شيء طابع المدينة. مسحوق الهمس ينتشر مثل مطر السماء. الإشاعات المفرحة والمبكية مثل حرائق الغابات. المتعلمون يهربون. الكوادر التي تبرعمت بين أحضان الوطن تبيع كل شيء وتهرب، ومن لم يستطع دفع أجور السفريهرب إلى الشمال فتحضنه محطات أكثر غربة. أما الفقراء فقد ظلوا يبيعون شبابيك غرفهم وأبوابها من أجل لقمة العيش. الفساد ينتشر في كل مكانيستخدم كل أسلحته. ولم نسلم من السرقة. كانت الملابس معلقه على حبل غسيل ظهراً، لكنها اختفت ونحن في الدار دون أن نحس بذلك. أما جارنا فقد خاف أن تُسرق سيارته فباعها فجاءته عصابة ملثمة تحمل السلاح وحملت بشنطة صغيرة ثمن سيارته. الرشوة سياط لاسعة تحرق القلوب والجيوب. إنها المدينة التي حوّلها الوحوش إلى غابة. لم تعد الدولة تهتم بالناس، أبقت على شعرة البطاقة التموينية. الاستيلاء على أراض وبيوت أولائك الذينغادروا الوطن بعقود مزيفة صادرة من دائرة تسجيل الأراضي. سكارى وما هم بسكارى والعذابات عواصف رملية تحوطنا من كل مكان.
الأيام ثقيلة على الذين يريدون أن يعيشوا ملتصقين بالشرف دون بيع أجسادهم أو إرسال أبنائهم للسرقة. إنها صعبة وأصعب من طاقتنا وتصورنا، فعمل حمزة لايسد جزءا من مصروف الأسرة الضروري. الدولار الذي هبط بشكل مؤثر عاد من جديد ليرتفع وترتفع معه أسعار المواد الغذائية .
– سنستغني من جديد عن أشياء ضرورية، ونبدأ رحلة البحث عنا، صحيح أنني أخبئ للأيام الحالكة ألف دولار كانت تساوي ثلاثة ملايين وهذايومها. هل يمكن أن أفتح بقالة؟.
– لا تكفي خلو محل.
– وهل نبقى صامتين حتى تغرقنا الأمواج.
– أنا أعرف بالسجائر، وسوقها متقلب يرتفع ويهبط مع سعر الدولا ر.
– إن لم نستثمرها يا ولدي ستذوب ونعود الى الصفر.
– إن ما لديك يكفي لشراء ست صناديق من السجائر ولكي نربح لابد من بيعها بالمفرد .
هل كتب عليَّ أن ألتصق بالسجائر وتصبح جزءاً مني!. جاءت البضاعة واستقرت في ركن من غرفة المعيشة، تشاركنا دفء المكان. ظل أملنا أن تنتهي الحصارات وأن نعيش بشراً. تدفعنا المعاناة إلى الخوض بأحاديث موشومة بالتعب وكلما هربنا إلى أخرى جديدة نراها تلصق كلماتها وترغمنا أن نتلو أناشيد الجوع والحصار بعناد، مارداً يضيق علينا المكان والهواء ويوزع جبروته أذرعة تسد الدروب نحو الرمادي في الغبش، تنكسر زجاجات الروح الشفافة لنبدأ بكنسها وصنع عجينة إصرار على الحياة من جديد .
– لقد اكتشفت يا عمتي حقيقة هذا العالم، أنه يعيش بلا حقيقة، وما الشر والخير إلاّ أدواتها اليومية. إن مكانيكيتها هي الصراع الأزلي القائم بينهما إن توقف انتهت اللاحقيقة الكونية وانتقل العالم إلى دمار شامل .
– لم أفهم شيئاً يا أم أمين.
– ولا أنا.
فعبست بابتسامة باردة ودوائر سوداء من الحقيقة واللاحقيقة تلتصق بثيابي فتحرقها. اعرف أم الحقائق أن للخبز الحار مذاقاً خاصاً عند أولئك الذين يحبون الحياة رغم صعوبتها وحقيقة الخبز بسيطة مثل طريقة صنعه.
– إن الحقيقة التي أعرفها أن الإنسان يولد حراً. وله على التاريخ والحاكم والمستقبل حق المعرفة، وحرية الرأي، العمل دون خوف. ما قيمة الثورات التي رفعت هذه الشعارات ولم تطبقها. لقد سُرق إنساننا بهدوء في خضم هذه الصراعات فلم يبقوا عليه إلا ورقة توت بالية كان يجب أن تسقط لولا النشاز فأبقوها. وأعتقد أن الصراع بين الشر والخير أزلي وهكذا تسير الحياة.
– لكنه الفكر يا عمتي المعادل الحقيقي لحياة كريمة وكم صلب على مرّ العصور أراك الآن متشائمة يا عمتي ؟
– لم تذوقي ثلوج عمان وبرودتها مغطاة بعباءة تتوسلين المارة لشراء السجائر وتفكرين بأفواه بعيدة عنك طيلة الوقت.
لم نصل إلى بر آمن، فالأفق المتحرك حولنا يحوطنا دون فرز لإنسانيتنا ، اخترت منطقة السنك متجولة أبيع السجائر لأنها مركز تجاري لقطعغيار السيارات وما شابه. أطرق أبواب المحلات صائحة بخجل لم أحسه في عمان، مخبئة بين جسدي المتعب والملابس بضاعتي. الناس تدخن على المعد الخاوية. سار العمل بشكل دفعنا إلى أن نشتري بكل ما نملك سجائر ونخزنها في البيت. الصراع قاسٍ، أقسى من الساعات الطويلة التي أتجول فيالشوارع صائحة “سجاير فايسوري.. اسبن” فوق الأوحال أو الحصوات الحارة الملتصقة بين النعل وأخمص القدم فيسري لسعها إلى الجسد كله. بدأنا جميعاً بدفع عجلة حياتنا من داخل بيتنا هدفنا أن لا نحتاج أو نضطر إلى بيع أي شي من بيتنا فكل قطعة تؤدي عملها وإن توقفت فالصيانة جاهزة وقد تعلم حمزه تصليح بعض الأعطال البسيطة لكل أدواتنا.
بدأت أم أمين تنكمش قليلاً، قليلاً، فخف وزنها وبدأ الذبول والذهول يحتل نظراتها لتنتابها الحمى بعض الأحيان، فقدت الشهية إلى درجة أن نصف وجبة تكفيها اليوم كله.
– لنذهب إلى الطبيب.
– ليس الآن يا عمتي، ما زلت قوية والحمد لله وتعبي حالة طارئة وستزول إن شاء الله.
– ولماذا لا تخرجين من غرفتك؟
– الجو بارد ولا أتحمله.
لم أتحمل رؤيتها تسقط بين يدي. في يوم عادي بسمائه وبياناته ذهبنا إلى الطبيب وبعد تحليلات وفحوصات أخذني إلى غرفة ملاصقة وقال بشيء أقرب إلى الهمس:
– لا أخفيك سراً إن الخبيث قد استشرى في جسدها وليس هناك أي أمل بالحياة، وأظنها مسألة أيام، شهور والأعمار بيد الله .
بكيتها ذاك المساء بصمت في ظلمة دون نشيج وصورة الوطن الممدد في غرفة إنعاش تلتصق بصورتها فبدأت أهذي “لا تموتي أيها الوطن الأم، نحتاج كبرياءك
البسيط زوادة لما تبقى من هذا الطريق الطويل“.
– إنهم أمانة في عنقك يا عمتي.
– نحن جميعاً أمانة بيد الله عز وجل، لا تقولي هذا، ستقومين وتعاودين نشاطك.
– لا أعتقد ذلك، إنه يدعوني كل ليلة، يمسح التعب عن جبهتي بكفيه ثم نركض كالغزلان، تصوري أركض في الحلم ولا أقوى على مغادرة سريريصباحاً.
– من ذا ؟
– حسين حبيبي وقرة عيني.
لم تعد قدماي تحملني، تهاويت على حافة السرير وبدأت بالنشيج. لحظات ويدها الواهنة تمتد ببطء إلى رأسي وتحضنه قائلة بصوت ملائكيأسمعه لأول مرة:
– الله يرحمنا برحمته، يرحمك يا عمتي، يمدك بالقوة في هذه الرحلة الطويلة الصعبة والتي لا أرى نهاية قريبة لها. ثم غفت .
في الأيام الأخيرة كانت هناك ومضات من قوه خفية تلبسها فتجمعنا لتتحدث عن أشياء جميلة بعفوية صادقة، كنت أرى من بعيد أملاً يجيء من منبع النهر، من خلف الأفق أنها ستعود إلينا قويةً كإيمانها بالحياة. لم أر دموعها بل إصراراً على أن تترك أثراً شفافاً في قلوبنا.
– الحياة جميلة يجب أن نعيشها بصدق.
كانت المدينة مشغولة بهروب مدير الاستخبارات العسكرية لكننا شغلنا بدفن أم أمين. لم تدعني هذه المرأة أخفف من مصابها بالدموع ولا بالكلمات التي نهرب خلفها بل تركت أسئلة وقناديل في كل مكان. يا رب إنها إرادتك وأخطاؤنا. غادرت قلعة الحزن والتحقت بالذين رحلوا مالكين الوقت لقراءة الفاتحة علينا تاركين لنا غدوات لا نعرفها. أي غد يرسم التجاعيد ويلون بالأبيض شعر حمزة ولم يتعدَّ الثلاثين بعد ويصمم أن لا تنجب زوجته طفلاً آخر يدفعه بين سندان السلطة ومطارق من كل حدب وصوب للصوص والتجار، المنتفعين والأمريكان الذين عبثوا بدفاتر الرمال المقدسة ليلعبوا مع القائد لعبة القط مع فأر مهزوم ويتركونه يخربش شعبه للحد الذي يخدم مصالحهم. الأسعار ترتفع من جديد وتشوي لحومنا الجافة فلم تعد أرباح السجائر تغطي احتياجاتنا، شددنا آخر الأحزمة واشترينا بكل المدخرات سجائر بسعر يرتفع كل يوم فالنار مشتعلة بلهيبنا.
في الأيام التالية لعلع الرصاص في كل أرجاء المدينة فقد قبل الرئيس باتفاق النفط مقابل الغذاء والذي كان مفروضاً أن يوافق عليه منذ طرحه قبل سنوات لكن لخبث السياسة ما يكفي لقطع أنوفنا وشعرة معاوية دون هياج الناس. بين صخب الفرح بالاتفاق، والقبضة الحديدية هبط السعر إلى أربعين بالمئه من السعر الأصلي ولا مناص من أن نأكل ما نبيع. حزنت حزناً جاء متأخراً فلم يجد له مقعداً فظل واقفاً على رئتي. نفد ما لدينا من بضاعة وفرشت ثمنها أتفرج عليه، بالأمس كانت أضعافه وآمال أعرض تناسب حاجياتنا. سحابة سوداء غطت وجه حمزة، ارتسمت حيرة بطعم ناي جنوبيحزين بوجهه، فأبتسمت ليقول:
– ما بك يا عمتي ؟
– تحد جديد ولن ننهزم بعون الله.
أحسست أنه بدأ يتراجع ويحاول العودة إلى وضعه الطبيعي .
– لكنها خسارة فادحة.
– لا يهم يا ولدي، اجلس في خندقك وتفرج إلى ما ستهاجمك به الأيام من أدوات، وأهوال، ولا تنس أننا نملك خبرة جوع وامتهان طويلة، ثم فكر. لقد خسرنا أشياء كثيرة أكبر وأثمن مما تراه، كرامتنا، أحبتنا، صوتنا……. أم أمين.
ولأول مرة تنزل دموعي عليها خرير جدول صغير لم يكبر بعد لتسمع صوته. ناولني كأساً من الماء. شربت نصفه وغسلت بالنصف الثاني وجهي .
– لملم النقود وضعها عندك وسنرى ما يمكن فعله.
في المساء رن جرس الباب، قفزت سميرة مسرعة وعادت معها أم محمد. هببت من مجلسي وقفزت ألمها وأقبلها، أمسح وجهها كأنني في حلم أريد التأكد من حقيقته وعدنا نحضن بعضنا من جديد وكأنني أحضن جبال عمان، شوارعها والساحة الهاشمية وكل مكان شهدنا سوية .
– خلصتيني أم حسين.
– الحلو ما ينشبع منه.
وبعد أن سلم الجميع عليها جلست قرب المدفأة.
– حمد لله على سلامتك.
– الله يسلمك عيوني .
– زمان والله يا أم محمد، ما الذي ذكرك بي ؟
– الملح.
جاءت الذكريات تهبط مثل ندف الثلج تحت عمود نور فتذكرنا تحت ضوء قمر مرح السكن ومطبخه والمسامير التي نعلق عليها ملابسنا، بسطات السجائر، رجال الجمارك، كل ما استطعنا أن نتذكره نام الجميع ونحن نتسامر، حلت قوة بأرواحنا المتعبة دفعتنا إلى الجانب الأخر في الليل، نسمة تطرد قدامها صلف الأيام وغبارها. أحسست بارتياح ونسيان ليصبح للشاي والحديث طعم الهيل والأمل فسهرنا حتى الفجر مهرتين انطلقتا خلف الأفق في حلم ربيعي ينمو في قاع مستنقع .
صباح جميل ملأت أم محمد دقائقه مرحاً يفتح أبواب قلبي فأسمع صريرها، أفطرنا بخدمة أم سعد التي أسعدتها زيارة أم محمد فجلست إلى جانبها تقرب البعيد، تحثها على الأكل وابتسامتها مشروع صداقة .
– هذه أم سعد تحت رعايتك… شكد حلوة عيني !
– لولا مشورتك لكنت تصرفت بحماقة. الحمد لله.
لم أتوقع أن ينتهي الفطور بعد أذان الظهر مسحورين بحديثها المليء بالسخرية عن أحوال البصرة التي تبدو أسوأ بكثير من العاصمة، ماء الشرب المالح دون تصفية، انقطاع تيار الكهرباء الذي يمتد إلى عشرين ساعة يومياً، العنف المضاد وتبعاته، كمائن لاصطياد مسؤولين لا يؤسف عليهم، ردود فعل السلطة من قتل وتشريد ثأراً لمخلصيها .
– تصوروا أن مدير المستشفى العسكري نقل إلى بغداد واكترى سيارة لنقل أثاثه اليها. في إحدى نقاط التفتيش اكتشفوا أن الشحنة أدوية فقط.
– القذرون على دين ملوكهم والدولة تتفرّج .
– لمصلحتها، كي نبقى منشغلين بالصراع مع الخوف والمرض والجوع وكيفية الدفاع عن أنفسنا ضد اللصوص والشرطة ولا ندري أين يقودنا هذا المجنون .
– ألم تعودي للحزب ؟
– سأكون غبية .
– وماذا تعملين ؟
– لاشيء. لقد أجرنا الطابق الأرضي لطلبة أردنيين يدرسون في جامعة البصرة فانشغلت بأعمال البيت ومساعدة أبناء أخي في دروسهم.
– والزواج ؟
– من يقبل بزهرة ذابلة سحقتها الأيام ؟
– اسم الله عليك عيني ما زال عطرك يفوح.
وضحكنا وأكثر حين أخبرتها بنكبة تدني الأسعار فغمزت لي قائلة:
– والله محظوظة بنت الچلبي
سرت شائعة بإعدام بعض الرتب العسكرية بحجة اكتشاف مؤامرة لقلب نظام الحكم، العقارب تأكل بعضها. حدث هذا قبل أيام من استفتاء “نعم و لا” للقائد الضرورة بأوراق مؤشرة بنعم وزعت علينا لنضعها في صندوق الاستفتاء فكانت
النتيجة على حد قول جارتنا خديجة 99,96 ليثبتوا شرعية هبل. تألمت لضرب أحد الناخبين الذي وشت زوجته به لكتابته “لا“، وكم أهين آخرون وسحبت منهم البطاقة التموينية لأنهم تجرأوا وكتبوا ما يحسونه.
شغلني مجيء أم محمد عن شؤون البيت والعمل فتركتهما لحمزة وتفرغت لها في زيارات العتبات المقدسة، الكرادة مكان عملي الأول، ومناطق عديدة ثم سافرت بعد أيام لن أنساها أبداً، لقد كانت روحاً وجسداً مصدر سعادة للجميع رغم أنهم لم يسلموا من تعليقاتها الساخنة.