اللوحة: الفنانة الأميركية باتريشيا برينتل
في حوار سيدة الغناء العربي أم كلثوم مع أعظم ملحنين في مصر بليغ حمدي سألته عن لحن في أغنية “سيرة الحب”، من أين جاء بها؟، فأجابها: أنها مستوحاة من لحن موسيقار معاصر لسيد درويش وذكر أسم الملحن والأغنية، فنظرت إليه بإعجاب وقالت: “قل للست الوالدة تبخرك”
***
هذه القصة قرأتها منذ أيام وللأسف فاتني أن أنسخها، لأنها ظلت تشتغل في فكري وخيالي طويلا منذ لحظة قراءتها، لأن بليغ حمدي أثبت لها أنه مثقفا بامتياز، فالمثقف هو الذي لا يترك معلومة في مجال موهبته أو اهتمامه إلا وقرأها، ووسط آلاف المعلومات يقوم بإنتاج لحنه الخاص أو فكرته الخاصة، وهذا ما جعل “بليغ” مختلفا عن غيره من الملحنين.
***
هذه القصة جعلتني أنظر بحسد إلى الفنانين الذين تُغَلَّف ثقافتهم بالفنون، فالفنون يفهمها كل الناس، فحين قام “بليغ” بتلحين خلاصة ورقة من ثقافته وعبَّر عنها في أغنية “سيرة الحب” كمثال، خرجت ثقافته لحنا يسري في وجدان الجميع ويفهمه الجميع ويتذوقه الجميع.
ولهذا حسدت “بليغ” المثقف، لأن المثقف عندنا والذي بضاعته الأفكار لا يستطيع التلحين، فتخرج كلماته وأفكاره مادة خام صعبة الفهم والتلقي، فتمكث في داخل الصفحات عشرات السنين بلا قارئ، ومثال ذلك “زكي نجيب محمود” الذي أعتبره هدية مصرية للفكر العربي، لم يجد “زكي نجيب محمود” من يلحن أفكاره ورسالته التي سطرها في سلسلة كتبه.
***
انتشر مذهب الوجودية في العالم مثل النار في الهشيم، لا يرجع السبب لقوة المفكرين وراء المذهب، ولكن لملحن موهوب، ليس بالضبط ملحن موسيقي، ولكن ملحن روائي، اسمه “سارتر”، قام سارتر الموهوب بتلحين الوجودية في رواياته ومسرحياته، ليس تلحينا موسيقيا ولكنه حَوَّلَ الأفكار الصلبة إلى قصة وحوار وسيناريو وشخوص وجمل يفهمها وينفعل بها الإنسان العادي، وبهذه الوسيلة تنسب الوجودية لسارتر فلا تذكر إلا ويذكر معها نبيها “سارتر”، الذي جعل الوجودية تيارا شعبيا في العالم.
***
في طفولتي كنت أقرأ مجلة “ميكي”، وكان يعجبني شخصية “بطوط” المنحوس، شخصية لا تستخدم عقلها أبدا، شخصية مَلطشة، تثير الشفقة ويتعاطف معها الناس بدافع الرحمة، ويقابلها شخصية تتميز عليها بالحظ وليس العقل، وهو “محظوظ”، شخص يلمس التراب فيتحول أبى ذهب، لا موهبة ولكن حظ، وكأن القيم التي أمامنا تتأرجح بين شخص بليد وشخص محظوظ، لا مواهب ولا كفاح ولا ثقافة وإبداع.
هذا البطوط هو اليوم المصري المُربك المرتبك، تخلى عن قيمه وثقافته وملابسه وتراثه وأصبح عاريا تائها حائرا، ينظر إلى المستقبل وينتظره بشك، والسبب أنه ومنذ الاستقلال أصبح مفعولا به، ارتد إلى الطفولة، وتوقف نموه، وفقد المبادرة والمسؤولية، ينتظر الرضعة من السلطة، ويوما بعد يوم تقل الرضعات وتشح حتى توقفت، فزاد ارتباكه، لأنه لم يتعود على أن يكون مسؤولا، وهذه هي خلاصة اللحظة، فالأطفال يبكون ويشتكون ويصرخون ولا يتعاونون على فعل مشترك مسؤول، والمصريون اليوم كذلك.
***
المثقف النخبوي هو الحل، بلد بلا نخبة مثقفة ستضيع حتما، شعب بلا نخبة هو طفل في غابة، يكون أقرب للهلاك منه للنجاة، والمثقف يحتاج مترجم، والمثقف يحتاج من يلحن له ألحانه كي يفهمها الناس، والمثقف متهم، متهم في نيته وعلمه وفهمه وعقيدته، ومتهم في قدرته على شرح افكاره، والمثقف هو مرَوّج فاشل لسلعة غير رائجة، قد تكون سلعة ذهبية ولكن كيف يفهم الناس أنها ذهبية؟، فالغلاف أشبه بورق اللحمة المنقرض، لا يتصور أن بداخله شيء ثمين، والمثقف مرتبك بسبب الناس والسلطة، لا يفهمه الناس ويتهموه، والسلطة تضعه تحت الميكروسكوب كل لحظة، وحين يوسوس له الشيطان سوف تسحقه بالشبشب كما الصرصار.
***
في طفولتي كان الإتحاد السوفيتي يصدر كتبا لتبسيط العلوم، ما أصعب هذه المهنة وما أندرها، تجد صفحة مرسومة ومكتوبة بعنوان “كيف اخترعت الطيارة”، وتقرأ قصة جميلة وسهلة وممتعة، وتصبح طفلا يفهم معلومة معقدة تم إسالتها من مؤلف موهوب، وتفوز بهذه الطريقة بطفولة راشدة.
المجتمع المصري المُربك المرتبك يحتاج من يبسط شروح وحلول للمأزق الذي نحن فيه، يحتاج من يلحن الأفكار كي يفهمها ويحسها الناس، روائيين وشعراء ومطربين، كل هؤلاء يشتغلون على بضاعة المثقف، لن يفهم الشعب أنه يعاني ولن يفهم أنه سبب المعاناة ولن يفهم الحلول إلا بمثقف يصحبه ملحن، شخص يخرجه من مأزق تهمة التعقيد والتعالي.
***
الأمل في هذا المصري المُربك المرتبك، فحين ارتبك انتقلت عدوى ارتباكه لكل العرب، ولا حل إلا بشفائه، وما حك جلدك مثل ظفرك، وبحمد الله هناك واقع يبعث على التفاؤل، أنَّ قدر الارتباك يقابله قدر الفرص والإمكانات، ولهذا هناك أمل.
لا يوجد نابغة مصري لم يكن قارئا ومثقفا، أم كلثوم ليست مجرد صوت ولكن صوت مثقف، وكذلك كل صاحب فن، الثقافة وراء كل موهبة، والمواهب التي تساقطت مبكرا كانت لا تقرأ، كما أن شُح المواهب حاليا بسبب تراجع القراءة.
***
لم يتخلى الحظ عن مصر، ولكن تخلى المصري عن نفسه، واليوم يدرك المصريون هذا الخطأ، وبدأت الطبيعة المصرية تشتغل لتسترد عافيتها، الجيل الجديد المثقف بدأ في البروز في السنوات الأخيرة، جيل حر، جيل لم يهان، جيل ابن عصره، جيل سيجمع بين الثقافة واللحن يعزف ويفهمه الناس ويتجمعون حوله ويستردوا أنفسهم.
