اللوحة: الفنان الجمايكي إيكال بيكفورد
مارا أحمد

إنها صورة لامرأة سمينة ترتدي فستانا فضفاضا أظهر سمنتها الضعف، لا تضع مساحيق تجميل، تركت شعرها بلا تصفيف، أظافر يديها طويلة، ليد مكتنزة بلا مانيكير، ولكن لا شك أن أجمل ما فيها أناملها ويديها، أمسكت قلما وكانت تتوسط مكتبها الخشبي العتيق، وكانت تتأمل في صورة وضعتها يمين المكتب.
منذ غادرتني، خاصمت مرآتي وغادرتها، تركتها تعاني الإهمال والتراب، أذكر أني زرتها الليلة السابقة، فرأيت خلف التراب – الذي كساها – امرأة سمينة قبيحة لا أدري كيف تركت صورتها على مرآتي.
لم أهتم، أدركت أنها عفريت يظهر حين تحزن المرايا.
أصبحت وأضحت وأمسيت أصاحب ثلاجة الطعام، أزورها كثيرا، لا أملها، ولكنها تشكوني من فتح وغلق بابها عشرات المرات في اليوم، بل حتى في الليل لا أدعها تستريح، ما بين الكربوهيدرات والمشروبات الغازية واللحوم أتجول متذوقة ثم مفترسة.
الدهون سكنتني واحتلت أردافي وصدري، فصرت أهتز كما الباندا، لأترك توابع زلزالية بشقتي.
تركت مساحيق التجميل ملقاة كما العجائز فوق تسريحتي، وقد أصاب أصابع أحمر الشفاه التجاعيد والتشققات، أما فرشاة البودر فقد منحتها لقطتي لتلعب بها كما كرة التنس تقذفها بيد وتتلقاها باليد الأخرى، وزجاجات عطوري قد جفت؛ فلقد تسربت من محبسها داخل القوارير لتتحرر وتحلق في الهواء مغادرة؛ غضبا من امرأة لا تعرف قيمة صحبتها، بل أشم عرقي الذي تنفس سعادة، فكان ذات يوم حين احببتك مطاردا مني؛ أحاربه بالماء فلا يجد وطنا على جسدي، أما الآن فنحن شركاء لجسد واحد نتناصف الحياة.
أنظر إلى أناملي لأرى أنامل مكتنزة باللحم والدهون، أظافر طويلة بلا تهذيب.
منذ غادرت، حزمت مع حقيبتك أنوثتي وتركت وراءك مخلفات امرأة بلا ترتيب، يبدو أن المرأة تتحول إلى كم مهمل حين يغادرها الحب الذي يمنحها الرغبة في الحياة ويجعلها تنقب عن أنوثتها في أعماقها وتستخرج كنوزها فتضفي الألوان على الحياة ووجهها.
على الجانب الآخر، كان يجلس كهلا على مكتبه وبيده قلم من الحبر القديم، كتب رسالة إليها؛ فلقد غادر جسده الماء وجف وتشقق وغالبه النوم خاليا من الأحلام التي كان ينهض بعدها في كامل حيويته، كان وجهها كما الشمس؛ لا يجوز أن يبدأ النهار إلا بعد أن تطل هي: “أنا بعدك أصابني الوهن وانحنى ظهري، صرت كما شيخ فقد عكازته، فلم يعد يبرح مكانه إلا وانكب على وجهه، وكما القميص الذي بهت لونه وصار باليا مستهلكا…”
أنهى رسالته وأتمت رسالتها، وبحثا كلاهما عن صندوق بريد فلم يجداه، سألا عن ساعي البريد فأجاب الموظف بأنها مهنة انقرضت منذ عقود وحل محلها التواصل اللاسلكي، هناك الفيسبوك والواتساب والتليجرام، فالعمر يمر أسرع من أغنية لأم كلثوم والأغنية في عصرنا الحالي لا تستغرق الدقيقتين، والحب ومعه الخجل صارتا كلمتين فارغتي المضمون، ومرادفة العلاقة والكيمياء.
خرجت من مكتب البريد لتلتقي به ممسكا بالخطاب كما هي، يمد يده إليها بما كتب لها وهي أيضا، ثم يمسك يدها ويتجاوز بها الطريق والبريد.