حياة المتنبي وشعره في كتاب «الصبح المُنبي عن حيثية المتنبي» 

حياة المتنبي وشعره في كتاب «الصبح المُنبي عن حيثية المتنبي» 

د. عوض الغباري

المتنبي من أكبر شعراء العرب، كان شعره صورة لذاته عبقريا معتدا بقيمته الفنية، إنساناً أصيلاً كريماً على نفسه، صادق التعبير عن مشاعره وعن قضايا عصره، وهو العصر العباسي من أزهى العصور الأدبية فى التاريخ العربي.

ارتبط شعره بالقيم العربية والإبداع الفنى فى تركيبة شعرية متفردة تجلت فيها جزالة اللغة العربية فى إهاب تجديدي امتزج بحكمة الحياة وفلسفتها.

واعتزاز المتنبى بشاعريته وقوة شخصيته وارتباط شعره بالبطولات العربية ممثلة فى سيف الدولة الحمدانى، خاصة، وقربه من مُلكه أثار الكثير من الأذى الذي ناله ممن حسدوه على مكانته الرفيعة من الأدباء والعلماء والكبراء، وأدَّى إلى خيبة أمله فى طموحاته الكبيرة، وتحطم أحلامه على صخور الواقع الأليم.

لذا فاض شعر المتنبى بتجاربه النفسية، وحكمته فى الأسف على ما شاب الحياة والأحياء من صغائر مناقضة لعظمة المعانى الأصيلة العظيمة التى افتقدها، لذلك كان الطباق – وهو اللفظ وعكسه- ظاهرة فنية فى شعره. وانقسم النقاد- قديما وحديثا- بين مؤيِّد لشخصيته الشعرية والإنسانية وبين معارض لها، وقد دارت حوله معارك نقدية كثيرة نظراً لمكانته الشعرية الكبيرة على مر الزمان والمكان.

وكتاب “الصبح المنبى عن حيثية المتنبى” للشيخ يوسف البديعى إبحار فى العالم الشعرى للمتنبى من منظور أديب دمشقى من أعلام القرن الحادى عشر الهجرى/ السابع عشر الميلادى هو الشيخ يوسف البديعى.

وقد أراد الإفصاح عن أهمية المتنبى، وما ثار حوله من آراء متضاربة بيانا للحقيقة لتشرق أنوارها.

وكتاب “الصبح المنبى” كما وصفه مؤلِّفه “يشتمل على غُرر الآداب، ونتائج الألباب”، فى سيرة حياة المتنبى؛ أخباره وأشعاره.

ومما ورد فى “الصبح المنبى” قيل للمتنبى: على مَن تنبأت؟ قال على الشعراء، فقيل: لكل نبى معجزة فما معجزتك؟ قال: هذا البيت:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدوا له ما من صداقته بد

وكأن حكمته الشعرية مُسَوِّغ للقب المتنبى.

ويمضي كتاب “الصبح المنبى” مسترسلا فى إيراد أخبار وأشعار يشد بعضها بعضا فى تأكيد الفكرة، وارتباطها بما يشابهها فيضحى بابا واسعا من أبواب الأدب وسيلة وغاية إلى فنون من الفائدة والامتاع.

ومن دلائل شاعرية المتنبى ارتجاله لقصيدة عصماء فى وداع ممدوحه منها:

لو كان ضوء الشمس فى يده

لصَاغَه جوده وأفناه

يا راحلا كل مَن يودعه

مودع دينه ودنياه

وفى التراث العربى ذخائر شعرية من فنون الارتجال التى تدل على الأصالة الفنية، ومثالها كتاب “بدائع البدائه” لابن ظافر الأزدى.

وأروع قصائد المتنبى هى التى أنشدها فى “سيف الدولة الحمدانى” لأنه كان قائدا عربيا مجيدا عاصره شاعر عربى مجيد له مكانته الأدبية العظيمة التى أهلَّته لإنشاد الشعر فى حضرة “سيف الدولة الحمدانى” جالسا على غير عادة الشعراء فى وقوفهم أمام الممدوحين. فقد استصحب كلاهما مَن يلائمه خلافا لما قال المتنبى فى حضرة سيف الدولة:

وقد يتزيا بالهوى غير أهله

ويستصحب الإنسان مَن لا يلائمه

وكان “أبو العلاء المعرى” قد أنصف المتنبى فذكره مسبوقا بكلمة الشاعر بينما يذكر اسم غيره من الشعراء الكبار مجردا من هذه الكلمة دلالة على تعظيمه له.

وأبو العلاء المعرى صاحب كتاب “معجز أحمد” يعنى المتنبى، يتناول عظمة شعر المتنبى.

ويجمع بين الشاعرين الكبيرين أن المتنبى شاعر القرن الرابع الهجرى، وأن “المعرى” شاعر القرن الخامس، وكلاهما عبقرى متفرد فى الشعر. كذلك جمع بينهما الاتهام بفساد العقيدة مما أورد “الصبح المنبى” كثيرا من النقول الواردة عنه، ولا تزال محل خلاف فى التراث العربى قديما وحديثا.

ولعل عبقرية الشعر والجنوح الإبداعى قد أدَّى بالشاعرين إلى التطرق لبعض المعانى التى أدَّت إلى الالتباس فى تفسيرها بما يخالف العقيدة دون التفات لدلالتها المجازية التى لاتعمد إلى الإساءة للدين.

خاصة أنَّ المتنبى كان ميَّالا للفخر بنفسه مما أدت المبالغة فى تصويره إلى توهم انتقاصه من القيم الدينية، ولصوق صفة المتنبى باسمه.

وذلك فى مثل قوله:

أنا فى أمة تداركها الله

غريب كصالح فى ثمود

وقوله:

أى محل أرتقى

أى عظيم أتقى

وكل ما خلق الله

وما لم يخلق

محتقر فى همتى

كشعرة فى مفرقى

وهو من باب التفاخر بالذات الذى وجده المتحاملون على المتنبى تكئة للمبالغة فى اعتقاد فساد دينه على غير حقيقة. وربما كان اتهامه فى العقيدة، وحبسه بسبب ذلك وراءه الحسد الذى أوغر صدور حاسديه فأدوا به إلى ذلك، إضافة إلى كثير من الآراء التى كذَّبت الروايات المنقولة عن فساد عقيدة المتنبى، ويسرى هذا على “أبى العلا المعرى” أيضا.

وخلال عرض القضايا الخاصة بحياة المتنبى من شعره يعمد “الصبح المنبى” إلى المقارنة بين أبيات المتنبى وغيره من الشعراء من حيث التشابه فى المعنى أو اللفظ، ويسرف فى ذلك وغيره مما كان يمثل ثقافة الناقد فى التراث العربى فى باب السرقات الأدبية.

وقد ذكر “الصبح المنبى” أن المتنبى أبدع وعبَّر عن شخصيته الأدبية مع تطرقه إلى المعانى الشعرية السابقة.

وقد شهد المتنبى بعض معارك سيف الدولة الحمدانى، ومدحه مدحا رائعا خلده به مثل قوله من قصيدة طويلة:

على قدر أهل العزم تأتى العزائم

وتأتى على قدر الكرام المكارم

وقد تمنى شاعر “سيف الدولة” قبل المتنبى أن يسبق المتنبى فى قوله:

فصرتُ إذا أصابتنى سهام

تكسَّرت النصال على النصال

وقوله:

فى جحفل ستر العيونَ غُباره

فكأنما يبصرن بالآذان

شهادة على براعة المتنبى فى هذا الشعر النادر، وسبقه إلى إبداعه

وفى مجالس سيف الدولة الحمدانى تطارح المتنبى الشعر ونقده مع الشعراء والأدباء، وقد كان ذا حضور كبير، وعلم غزير بعلوم اللغة العربية وآدابها. وقد سعى المحيطون بسيف الدولة الحمدانى إلى الإيقاع بين المتنبى وسيف الدولة، ونجحوا فى ذلك، وكانت قصيدة المتنبى المشهورة تعبيرا عن حزنه وأسفه، جراء ذلك، يقول منها، مخاطبا سيف الدولة:

يا أعدل الناس إلا فى معاملتى

فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

ويحاول أن يواجه ضعف موقفه بالفخر بذاته قائلا:

أنا الذى نظر الأعمى إلى أدبى

وأسمعت كلماتى من به صمم

وقد جرت أخبار عن اشتهار “المتنبى” بالبخل والحرص على المال، أكَّده بقوله:

فلا مجد فى الدنيا لمن قل ماله

ولا مال فى الدنيا لمن قل مجده

وكأنه – وهو العظيم فى نفسه- يرى المال صنوا للمجد.

قدم المتنبى إلى مصر محسورا حزينا على مفارقة سيف الدولة الحمدانى: وكان فى حلوله بمصر خائفا مترقبا متوجسا الشر من “كافور الإخشيدى” حاكم مصر.

وقد بدا ذلك فى أول قصيدة أنشدها المتنبى لكافور الإخشيدى، ومطلعها:

كفى بك، داء أن ترى الموت شافيا

وحسب المنايا أن يكُنَّ أمانيا

وهى بداية ملغزة يستتر وراءها قلق المتنبى، وقد تأكد بعد ذلك من خيبة أمله فى كافور الإخشيدى وقد حرمه من ولاية بلد كان يطمح إليها.

يروى “الصبح المنبى” أن المتنبى سأل كافورا الإخشيدى أن يوليه بلدا من الشام أو غيرها من بلاد الصعيد، “فقال له كافور: أنت فى حال الفقر وسوء الحال وعدم المُعين سَمَتْ نفسك إلى النبوة فإن أصبت ولاية صار لك أتباع فمن يطيقك؟” .

وجرى ذكر كثير لتورية المتنبى باللون الأسود لكافور الإخشيدى وغير ذلك من الشعر على السخرية به ذما فى معرض المدح. وقد ألف المرحوم الأستاذ الدكتور/ نعمان القاضى كتابا فى ذلك عنوانه : “كافوريات أبى الطيب”. لقد رحل المتنبى عن مصر آسفا على فقدان طموحه متمثلا فى سوء حاله بقصيدته الشهيرة:

عيد بأية حال عُدْتَ يا عيد

بما مضى أم لأمر فيك تجديد

وقد عبَّر المتنبى عن إحباطه فى مصر بقوله الشهير:

وكم ذا بمصر من المضحكات

ولكنه ضحك كالبكا

إذ ابتُليت مصر على مر العصور بالمحتلين الغزاة الأجانب الذين نهبوا خيراتها، وتركوا أهلها محرومين منها.

وفى التراث المصرى كتابان يقللان من شعر المتنبى أحدهما “الإبانة عن سرقات المتنبى” للعميدى، والآخر “المنصف فى نقد الشعر وبيان سرقات المتنبى” للشاعر “ابن وكيع التنيسى”. إضافة إلى “الحاتمى” الذى ألَّف رسالة فى مساوئ شعر المتنبى.

لكن المتنبى يبقى بشعره الذى أشاد به الكثيرون من النقاد والأدباء منهم من المعاصرين “شوقى ضيف” فى موسوعته عن تاريخ الأدب العربى.

ومن القديم مما قيل عن المتنبى أنه كان “كثير الرواية، جيد النقد… ولا يُسأل عن شئ إلا استشهد بكلام العرب من النظم والنثر” .

وقد رد المتنبى على مَن ظلم شعره بقوله:

ومَن يكُ ذا فم مر مريض

يجد مُرًّا به الماء الزلالا

وألف “القاضى الجرجانى” كتابا وضع المتنبى بين خصومه، عنوانه: “الوساطة بين المتنبى وخصومه”، أقام فيه مفهومه للشعر من خلال نقد شعر المتنبى.

وكان بعض حاسدى المتنبى الذين شنَّعوا عليه “أعرف الناس بحسناته” .

ويروى ” الصبح المنبى ” قصة المقتل الأليم للمتنبى فى بلدة “واسط” فى شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة هجرية على يد رجل من بنى أسد اسمه “فاتك بن أبى جهل” لهجاء المتنبى لأسرته هجاء مقذعاً.

ولما هجم عليه قاتله مع قومه وبدت للمتنبى هزيمته قال له غلامه أين قولك:

الخيل والليل والبيداء تعرفنى

والحرب والضرب والقرطاس والقلَم

فقال قتلتنى قتلك الله، فقاتل حتى قُتل.

وفى رثاء المتنبى يقول الشاعر:

هو فى شعره نبى ولكن

ظهرت معجزاته فى المعانى

والمتنبى وأبو تمام والبحترى “هم أصول الأدب وفروعه، ومعدنه وينبوعه، وإلى كلامهم تميل الطباع، وعلى أبياتهم تقف الخواطر والأسماع” .

وقد اختص المتنبى فى شعره بالحكم والأمثال، “واختص بالإبداع فى مواضع القتال… وذاك أنه إذا خاض فى وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها… ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة، فيصف لسانه ما أدَّاه عيانه… وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء” .

ولقد شُغلت بالمتنبى الألسن “وسهرت فى أشعاره الأعين، وكثر الناسخ لشعره، والغائص فى بحره… وغرائبه طائرة، وأمثاله سائرة” .

ومع تعصب “العميدى” على شعر المتنبى، وهجومه عليه يقر بفضله “وجودة شعره وصفاء طبعه وحلاوة كلامه، وعذوبة ألفاظه، ورشاقة نظمه” .

ويرد مؤلف الصبح المنبى على اتهام “العميدى” للمتنبى بالسرقة الشعرية مبِّينا إبداعه الخاص.

وأفاض “البديعى”؛ مؤلف “الصبح المنبى” فى بيان السرقات الشعرية، وقد تناولتُها بدراسة فى كتابى “نقد الشعر فى مصر الإسلامية” من خلال نظرية التناص، وهى معالجة تداخل النصوص نسقا من التفاعل الإبداعى المستمر بين القديم والحديث.

ويرى مؤلف “الصبح المنبى” أن المتنبى “وإن أخذ بعض معانى الأبيات… فقد زاد من ألفاظه ما يحلو سماعه، وتعذُب أنواعه، ويلطف موقعه، ويخف على القلوب موضعه” . وقد ذكر “الثعالبى” فى كتابه: “يتيمة الدهر” أنَّ المتنبى “واسطة عقد الدهر فى صناعة الشعر، وقد كان شعره سائرا فى الآفاق، وهو القائل:

وما الدهر إلا من رواة قصائدى

إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا

ولديوان المتنبى شروح كثيرة، “ولم يُسمع بديوان شعر فى الجاهلية ولا فى الإسلام شُرِح هكذا مثل هذه الشروح الكثيرة سوى هذا الديوان” .

وفاض كتاب “الصبح المنبى” بكثير من المعانى التى استلهمها الأدباء من شعر المتنبى، وما التقى فيه المتنبى مع غيره من الشعراء.

ويمضى “الصبح المنبى” فى نقد شعر المتنبى سلباً وإيجاباً، ويتسلح مؤلفه بثقافة أدبية واسعة تطوف بشعر المتنبى عبر نُقَّاده. ومن روائع شعر المتنبى التى أشاد بها “البديعى”

قول المتنبى فى سيف الدولة:

خليلىَّ إنى لا أرى غير شاعر

فَلِمْ منهمُ الدعوى ومنى القصائد

فلاتعجبا إن السيوف كثيرة

ولكنَّ سيف الدولة اليوم واحد

ومن روائع الغزل التى يُتَغَنّى بها من شعر المتنبى قوله:

واستقبلَتْ قَمَر السماء بوجهها

فأرتنِىَ القمرين فى وقت معا

ومن روائع الأمثال فى شعر المتنبى قوله:

بذا قضت الأيام ما بين أهلها

مصائب قوم عند قوم فوائد

وقوله:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجرى الرياح بما لا تشتهى السفن

إن كتاب ” الصبح المنبى” وموسوعيته فى دراسة المتنبى وشعره صورة للتراث العربى الزاخر بمحيط شعر المتنبى الذى قال :

أنام ملء جفونى عن شواردها

ويسهر القوم جراها ويختصم


*يوسف البديعى، الصبح المنبى عن حيثية المتنبى، تحقيق مصطفى السقا، وآخرين، دار المعارف، الطبعة الثانية.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.