رسائل العمة

رسائل العمة

اللوحة: الفنان الإنجليزي جون وليام ووترهاوس

عبد الرقيب الوصابي

عزمت “العمة” على اختبار أزواج بناتها الثلاثة، في اليوم الأول من موسم الربيع، قررت الذهاب مع ابنتها وزوجها إلى البحر، كان البحر يرسل زخات هواء منعش، يتوافد الزوار من جهات شتى، لقضاء أوقات مرح على جوانب متقاربة من الشاطئ، نزلت العمة للبحر، قطعت مسافة حذرة باتجاه العمق، ثم بدأت بالصراخ طالبة النجدة، أسرع رامي نحوها، غمر جسده في أعماق البحر باذلا جهده من أجل اللحاق وإنقاذ عمته، بخفة حملها على أكتافه، ظل يصارع الأمواج حتى استقر به المطاف على الشاطئ. 

في اليوم الثاني استيقظ رامي من نومه، ولمح رسالة موضوعة بالقرب من وسادته، فض الرسالة بعناية، ثم قرأ فيها: “لقد أهديتك سيارة جديدة مقابل ما فعلته لأجلي البارحة… عمتك”

بعد هذه الحادثة العابرة، قررت العمة زيارة ابنتها الثانية، اقترحت على زوجها، القيام بنزهة إلى البحر، كانت قد اعتزمت تكرار المشهد السابق لاختبار زوج ابنتها، فور وصولهم إلى البحر، أسرعت العمة متجاوزة مد البحر المتصاعد باتجاه الشاطيء، ظلت تواصل سيرها وفجأة رفعت ذراعيها للأعلى طالبة النجدة، رأسها يطفو على سطح البحر، ويختفي تارة أخرى، انطلق سامي كالبرق باتجاه عمته، حاول أكثر من مرة، حتى تمكن أخيرا من رفعها عاليا فوق كتفيه، ظل يكابد قوة الماء الغاضب حتى أسكت انفعالاته بالوصول إلى بر الأمان، قرر الرجوع إلى منزله بعد إيصال عمته التي كادت تقضي نحبها لولا ألطاف الله.

في صباح اليوم التالي، استيقظ سامي مجهد القوى، أفرد ذراعيه إيذانا ببدء يوم جديد، قبل أن يهم بمغادرة مرقده، رأى رسالة مطوية بعناية موضوعة بالقرب من وسادته، فتح الرسالة وقرأ فيها: 

“مبارك عليك، لقد حصلت على سيارة فارهة، ستجد مفاتيحها تحت وسادتك، تعبيرا عن الامتنان والتقدير للموقف الرجولي الذي فعلته معي.. عمتك” 

مضت الأيام في تلاحقها، لم يبق أمام العمة سوى مهمة واحدة تفكر في سرعة إنجازها، اختبار زوج ابنتها الثالثة، كان الربيع يجر خطواته نحو التلاشي، في آخر أيام الربيع، قررت العمة زيارة زوج ابنتها الثالثة لإتمام المهمة، بدأت في استجماع حاجاتها، وارتداء ملابسها ثم غلقت باب شقتها، واتجهت صوب منزل ابنتها الثالثة. 

استقبلها هاني وزوجته بترحاب وفرح، قضوا وقتا كافيا للسؤال عن الأحوال وتبادل أطراف الكلام، طلبت العمة من زوج ابنتها القيام برحلة بحرية للتنزه، وافقت مبادرتها هوى في نفسيهما، شرعا في الاستعداد، وتجهيز ما يلزم للرحلة. 

أخذت سيارة هاني تلتهم الطريق بشغف متسارع، على جانبي الطريق تتراكض مبان متراصة بانتظام أسنان المشط، أخبرها هاني بأنها مبان ضمن مدينة سكنية تعتزم الدولة استكمالها كخطوة للتخفيف من أزمة شقق الإيجار والانفجار السكاني المرتقب في العاصمة. 

بعد مرور ساعة من وصولهم إلى شاطئ البحر، تفاجأ هاني أن عمته كانت تغرق و تحاول التلويح بيديها في إشارة إلى سرعة إغاثتها، كاد قلبه ينخلع من قفصه الصدري، لم يتوان في الإسراع إليها، لكن البحر لم يكن كعادته لطيفا، بصلف يتعمد إبعاد هاني عن القيام بالمهمة النبيلة في إنقاذ عمته، بدأت الأمواج المتضاربة في انتزاعها عن مرمى ناظريه، كانت تغرق بالفعل هذه المرة أمام نظر الجميع. 

سيطر الحزن على هاني وزوجته، ليلتها، كانت الفاجعة قد شطرت أجواء سعادتهما، إلى شظايا متناثرة، قرر هاني النوم المبكر محاولا نسيان ما حصل أمام عينيه، عند استيقاظه شاهد ورقة مطوية، فتحها ليقرأ في سطورها:

“لقد حصلت على قطعة أرض، ورصيد بنكي يقدر بمائة مليون دولار، وسيارة فاخرة … عمك” 

انقضت تسعة شهور على حساب التوقيت الزمني لأهل الأرض، التسعة الأشهر تساوي شهرا واحدا بتوقيت عالم البحار، في السابع من يوليو قذف البحر ما في أعماقه، كان من ضمن مقذوفاته “العمة” ولكن بعد تحولها إلى عروس للبحر، بذيل وزعانف، جسد غضروفي ممشوق القوام، تبدو للناظر شابة في ذروة قوتها وطموحها، مستلقية على الشاطئ كأنها البدر في ساعة تمامه واستدارته، فتحت عينيها للنور، كان أول مشهد تراه، من مشاهد الحياة على الأرض، زوجها السبعيني برفقة فتاة يافعة متشبثة بذراعه الأيسر، التهليل كان باد على ملامح العاشقين، أغمضت عينيها ثم قررت الغوص ثانية في أعماق البحر الذي لم تنم أمواجه بعد.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.