اللوحة: الفنان النرويجي فريتس ثاولو
سليم الشيخلي

ظل سعد الصغير حبل السرة مع الحياة، السلوى الشفافة التي تحسسني بالأشياء البريئة حولي، تطورت علاقتنا من حب إلى كيان، يأتي بألعابه لنفك ونركب سوية، نعمل طائرةً ونغني لها أن تأخذنا إلى جزيرة خضراء فيها عصافير وشكولاتة وأرجوحة، قطاراً ندفعه بتوت توت يقف في كل المحطات الجميلة وعندما يمل منها يتركني أجمعها في كيسها ويركض وراء الكرة يدفعها إلي، أي عصافير تطير من بين أصابعه لتبني أعشاشها بين طيات ملابسي وعلى أزقتي.
رغم ذكائه الفذ فإن درجاته الشهرية كانت متدنية لأنه لم يشارك البعض في تقديم هدية لبعض المعلمين، فاستوت على الضفة الأخرى من عبر سباحة ومن نقلته جرة قلم جريئة، هكذا كان أمين مع المدرسة لكنه لا يفتأ يساعدنا ويحضر دروسه ويراجعها بعض الأحيان مع سميرة ولم يسلم من الطلائع فقد فرضت عليه ولم أذهب إلى مدرسته لنجدته لأن القانون الذي سنه الأقوياء يسحب البطاقة التموينية ممن يتأخر في الدفاع عن الوطن والقائد الملهم، كم بقي منكم أيها الراقدون تحت التراب يمكنه الإحساس بنا، أين أنتم الآن… أمين! يوسف! آخرون التصقوا بأهداف ذابت كالجليد، تركت العمل لحمزة الذي أراه خلية عمل، ينكمش جسده عليه لكن إصراره كبير.
– هذا قدرنا سنندحر إن لم نكن أقوياء، الزمن لا يرحم الضعفاء.
أصبح شاغلي البيت، سميرة التي أرى في ملامحها صوره اليوم القادم.. أمين، سعد والموت الذي أصبح جزءاً من حياتنا، يسير معنا في الطرقات،يتلحف بأغطيتنا، يخرج معنا صباحاً، يأخذ أكثرنا باتجاهات خاطئة، يفكر لنا. تدفعه الأيام قسراً علينا فانضم الى حزب الفقراء المعدمين ليقاتل معهم،عليهم، لهم وبهم. يخرج مع المشيعين وفي المقبرة يعلن براءته من الذين رحلوا، ويقبل التعازي ليقدمها كالمخلص من الخوف والفقر، كان التاريخيقول لنا إن الغزاة يأتون من الخارج لكن عدونا يقفز من داخلنا، مسلسل الإعدامات لم ينته بعد. تشكيلة من ضباط الجيش ورفاق الحزب الحاكم الذين خدموا السلطة ككلب الراعي تلتحق بالذين ذهبوا ليتحاسبوا هناك، نقاط التفتيش تتألف من شبان عاطلين اندفعوا للسرقة والتسكع والاعتداء على الناس، استطاعت السلطة أن تحتضنهم في تنظيم بزي أسود وتدريب خاص بمميزات أكبر من الوحوش المألوفة لتدخل أي مكان دون استئذان وتنتشر في كل مكان، السكاكين تشحذ دائماً، وجسمك أيتها المدينة العنيدة يصرخ “لا” عيناك تصرخان..لا.. ويصرخ معك الرشيد والحلاج، ومظاهرة أول عاشق ضمه صدرك.. «لا..لا» فيرجع الصدى..لا..لا التي تضيء كموجة تذوب على ساحل بعيد.. كم صنعت في المجد الذي أغاظ الطغاة ليجعلهميطيلون عذابك ومن الصبر أن تظلي تسلقين الحصى لأبنائك وتطمئنيهم، الله ما أجملك في ثياب عرسك وأنت تزفين الى المنصور، وما أبهاك والدماء تسيل من جسدك مرمية خلف أسوار قصر السجود. تحية أيتها الصابرة التي تنام في حدقات الصغار وآمال من تبقى لهم أمل أن يتكئوا على جدرانك.
هربت سميرة الى البصرة فقد فلت لسانها من لجامه أمام بعض من زميلاتها في المدرسة فتراكضن إلى المديرة التي وبختها ووعدتها بالقصاص وأبقتها حبيسة في غرفتها تحقق معها، عندما بدأت حصة جديدة ودخلت الطالبات صفوفهن هربتها من المدرسة متمنية لها أن لا تقع في أيديهم وأن لا تعود إلى المدرسة إلا بعد أن تهدأ الزوبعة.
– لم أتحمل يا جدتي هذا النفاق، يمتن جوعاً ويمجدن بابا صدام، تلك تعتبره فتى أحلامها، تود أخرى لو قبلت خده لم أقو على تحمل زور أوزارهن التيكانت مفاتيح كسرت أقفالي فانفجرت بإحداهن قائلة:
– ألا يهمك أن يسود السلام ونمتلئ عافية وأمناً ونشبع معدنا الخاوية.
– نعم.. وهذا لا يأتي إلا بمكرمة من القائد الله يحفظه.
– ألا يكرمنا بقبول قرارات الأمم المتحدة لنحس بالأمان من القصف الأمريكي؟ لماذا لا يسمح بقيام أحزاب؟ وأين الديمقراطية التي يتشدق بها المسؤولون؟ ثم انهمرت اللماذات كشلالات فلم استيقظ إلا وصراخهن علي بشكل لا إنساني وقادوني إلى المديرة بجوقة سباب وضرب.
بقيت معها في البصرة وعدت بعد أن طمأنتني أم محمد عليها وبحركة أجادتها أيام الرماد الطويلة استخرجت لها أوراقاً ثبوتية مزورة باسم مستعار عاشت تحت ظله طيلة الأيام هناك.
كل شيء هادئ في البيت، هدوء يسبق عاصفة، تجعلنا نتحدث، نأكل ونتنفس بصمت، نؤلف قصصاً لما سيحدث لنا بعد أن قالت سميرة «لا» يدخل القلق تفاصيلها، يتمدد بين الرأس والمخدة، بين الفكرة واللغة إلى ذلك اليوم الذي سمعت طرقاً غريباً على الباب فخرجت لوجه صارم لم يسمع تحياتيفقال:
– منزل سميرة حسين أمين؟
– نعم.
– أريد مقابلتها.
– غير موجودة.
– أين هي؟
– في عمان.
– بدأ الكذب. نادي عليها ولا تخافي.
– ولماذا أكذب (ولعنت في سرها كل الذين اضطروها دخول غابة الدخان قسراً فاضطرت إلى الكذب) تفضل وفتش الدار.
– انظري، إذا لم تأتي بها الى المخفر خلال يومين سنأخذك بدلاً منها.
– والعباس سافرت لعمان.
– يا عباس هذا… ابن فرناس؟
– أبو راس الحار.
– “بابه” مات قبل ألف سنة وتريدين رأسه يظل حار، أرسلي في طلبها، خمسين ألف شغلة عندنا ومعاهن شغلة سميرة أم لسان.
وابتسمت مع ابتسامته التي أخذت شكل شمعة في نهاية نفق يجب أن أركض إليها.
فبادرته:
– أتدخن؟
– نعم.
دخلت الدار مسرعة ولففت له في ورقة جريدة ممزقة كروز سجائر، نظر إلى الجريدة وسأل:
– فيها صورة السيد الرئيس الله يحفظه؟
– لا عيني صورة الرئيس نخليها بقلوبنا الله يحفظه، مهيوب.. بدوت كأني أفكر. ثم قلت:
– لكن لو كنت لا أعلم بأن صورته في الجريدة واستخدمتها فما العقوبة؟
– ستة أشهر سجن. أجاب بسرعة.
– وإذا الواحد يدري يعني متعمد؟
– نسلق جده وما بعد، بالمناسبة طولتيها، سآتي بعد يومين ولازم كل شيء ينتهي.
– الله وياك عيني وهذا بيت أختك أطلب، قول وما يردك غير لسانك.
– زين.. مع السلامة.
وبرحيله استعاد جسدي ثباته وبدأت ألتقط فكرة أنه باع نفسه بسهولة وبدون أن يفصح عنها إلا بابتسامة خبيثة وهو يتسلم السجائر بإصرار من بينيدي.
بدأ الصمت يتراجع وبدأنا نتحرك، نأكل، نهمس بصوت أعلى، في المرة القادمة سأهيئ أدواتي كلها لغلق هذا الملف وإعادة سميرة الى البيت. كانت أم محمد تتصل فترات متقاربة وتطمئنني عنها.
– أي بنت هذه رباب عفواً سميرة سابقاً، الله كم تمنيت أنها ابنتي وتبقى معي، تصوري تقرأ كل شيء يقع بين يديها، تسأل، تناقش، أحسها بعض الأحيان وكأنها تريد أن تنفجر في مكان عال وتملأ شظاياها خارطة الوطن بالحب والأمل، سورتني زهوراً لم تتفتح بعد للأمل الذي رحل بعيداً فأحسست أن طائر الفينيق موجود وسينهض لا محالة.
بعد يومين طرق الباب فإذا هو بنفس السحنة عرضت عليه الدخول لشرب الشاي.
– بابه عندي شغل وماكو وقت.
– شاي عيني ويمكن مو فاطر لحد الآن.
– يا الله.
أدخلته باحة البيت وركزت كرسياً تحت عشتار وركضت إلى المطبخ أعد له من الطعام ما استطعت لعل وعسى أن يؤثر الملح كما يقال، بدأ يلوك الطعام ويسأل بسذاجة دون أن يسمع الجواب عن الساكنين في البيت، المعيل للأسرة، وعمله بجمل يلوكها مع الطعام.
– أين سميرة؟
– قلت لك في عمان.
– وماذا تعمل هناك شابة صغيرة بمفردها؟
– ا لظروف يا ولدي.
– أي ظروف، مال الرسائل لو مال الزمان والمكان؟
– الجوع، لقد ذهبت لتعمل هناك خادمة عند عائلة أردنية طيبة.
– ماجدة عراقية تعمل خادمة في الأردن وعمرها خمس عشرة سنة! أقعد عوج واحكي عدل.
– هذا ما يريده السفلة الأمريكان لنا، يجوعونا بالحصار وبالقصف العشوائي لكن هيهات أن نموت، إحنا جنود الريس، الله يطول عمره.
وبدأت محاضرة عن الصمود والتضحية صببتها كالماء البارد فوق رأسه وبين جملة وأخرى كنت أسب بوش وكلينتون وأمريكا ليترنح جالساً على كرسيه غير مصدق إن سميرة من هذه العائلة.
– لقد أخذتني طولاً وعرضاً، كفى أرجوك، ملف سميرة لازم يغلق.
– كيف؟
– عليها إن تحضر.
– لكنها في عمان؟
مد يده إلى شاربه يمسح عنه نقط الشاي المتعلقة ونتفاً من الخبز، نظر إلي السماء فقال من هناك:
– ربع مليون دينار تغلقه الى الأبد.
هزني فرح لم أتمالكه فبدوت ضعيفة لأقول:
– لكني لا أملكها يا ولدي.
لم يترك لي مجالاً للتراجع فالأفواه في المخفر كثيرة والملف سيبقى كما هو، بدأت أساومه لكنه كان صلباً، عنيداً كقرار أصدرته الدولة بحق أعدائها.
– تقولين إنها تعمل في الأردن، يعني إنها ترسل إليكم شهرياً مبلغاً دسماً، أعتقد نستاهل راتب شهر من سميرة.
– تستاهل. قلتها بعد أن أسقط في يدي. إن شاء الله بعد أسبوع المبلغ يكون جاهزاً.
– المدة طويلة!
– تدري أنت رأس الشهر ترسل لنا سميرة راتبها، هذا الشهر إن شاء الله حصتك.
– زين. أروح وأرجع يومين من الشهر الجديد.
اتصلت بأم محمد التي هللت لما توصلت إليه مباحثاتي معه ووعدتني أن تجيء معها قبل التسليم لتكون شاهدة على ما يجري وستفعل ما بوسعها، اتفق بعض الجيران على دس مبلغ بين يدي ولم يصمد رفضي أمام المشاعر النبيلة، الناس في بلادي طيبون كخدر الأطفال الذي يأخذهم إلى الأحلام.
وجاءت أم محمد في اليوم التالي ومعها خمسون ألف دينار مساهمة من أجل إنقاذ سميرة.
بدأت حركة البيت الاعتيادية تأخذ محلها بعد أن ساد الهدوء وإحساس بانتصار في مشكلة كنت فيها الطرف الضعيف جداً، جاءت أم محمد ومعها سميرة والموعد يقترب، جمعت المبلغ المطلوب ووضعته في كيس نايلون بعد أن لففته بعدة صحف قديمة ووضعته في المطبخ حيث كانت أم محمد وسميرة قابعتين بانتظار ما ستسفر عنه مباحثات خلف ستائر الأعراف الإنسانية.
– السلام عليكم.
– هلا عيني، أتفضل.
دخل وكأنه أحد أفراد البيت وجلس على كرسي تحت ظلال عشتار، هرعت بالشاي والكعك فشكرني على ذلك، ولم يكد ينتهي من إنهاء وجبته حتى بادرني.
– أين النقود؟
– إن شاء الله. ثم صحت: أم محمد.
فجاءت بهدوء تحمل الكيس والربع مليون ومسجلة صغيرة تخبئها تحت عباءتها وكانت من بنات أفكارها علها تساعدنا إن أراد ابتلاع النقود دون مقابل، سلمت عليه.
– هاي منو؟
– أختي أم محمد تسكن البصرة منذ سنوات وتزورنا بعض الأحيان.
– شلونها البصرة؟
– تسلم عليك وتقول متى تزورنا.
أشرق وجهه بابتسامة خبيثة، نظر إليها ملياً فأخذت الكيس من يدها ووضعته أمامه ونظرت بصرامة قائلة:
– هذه ربع مليون؟
– نعم. نعم.. ثم التفت إلي.
– خوب ماكو نقص؟
– لا، إذا ما تصدق عدها.
– لا يابه، أنتو ثقة وخوش ناس مبين عليكم طيب أهل أيام زمان.
سحب الكيس ووضعه في حضنه وهو يلوك الكعك المغمس بالشاي، فترت عن وجهه ابتسامة بانتصار على العالم كله، هم بالوقوف فصرخت عليه.
– أخبار الملف؟
– اليوم نحرق أوراقه وخليها تجي من عمان أو من أي غرفة هنا أريد أسلم عليها. ولو غيرك كلمني بهذه اللهجة لكان لي حساب عسير معه.
– ليش ما تريد تصدق أنها في عمان وأن هذا الكيس من راتبها ومساعدة أختي والباقي سلف من الناس أجبته بهدوء يقفز على غضبي، أحس بذلك فقال:
– شيء ثان أريد أقوله، أحسن لها أن تنتمي للحزب وتخلص عمرها أو تقطع لسانها من الجذر وتصير خرساء، فنحن لا نحاسب الخرسان ولا نأخذ بأيتقرير يرفع ضدهم، يعني شنو ما ظلت رحمة بقلوبنا.