قليل من التعاطف

قليل من التعاطف

اللوحة: الفنان الليبي عادل فورتية

“كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا” النساء (94)

“لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”

يستقل الانسان سيارة فيشعر بالنِقمة وإثارة الأعصاب، بسبب أصحاب الدراجات… تبا لهم، إنهم يعيقون طريقه، لم لا يَتخذون طُرقاً أُخرى!

وعندما يحدث تبادل للمواقع؛ تتغير زاوية الرؤية، فيركب نفس الإنسان الدراجة، ويشعر بالنقمة على أصحاب السيارات… هؤلاء المغرورون بقوة محركاتهم، وباكتظاظ جٌيوبهم بالأموال، لماذا لا يَتريثون قليلا؟ إنهم لا يُبالون بنا ويُعاملوننا كالحشرات، هل يريدون سحقنا تحت عجلات سياراتهم الفاخرة؟

إن الموقع الذي تنظر منه له تأثير على نفسيتك وموقفك ونظرتك للخارج أو للآخر بالتأكيد.

يُذكرني هذا المشهد ببشارة واكيم عندما كان حلاقاً في فيلم “لو كنت غني”، كان يلقي الخُطب النارية التي تنادي بحقوق الفقراء والتي يجب أن تُنزع من الأغنياء، وعندما مات قريبة (الشحات) الذي كان يتبرأ منه ويخجل من فقره، وترك له مالاً كثيراً، فأصبح من الأغنياء، وتبرأ من الفقراء.

وهكذا أكثر الناس، يَصعُب عليه أن يَضع كلتا القدمين في المركبتين، مركبة الفقر والغني، مركبة الصحة والمرض، مركبة الإيمان والكفر، وكأنهما مركبة الحَر والبرد لا يجتمعان، ولكنهما يجب أن يجتمعا في الإنسان ضميراً وخيالاً ورحمةً، فيضع نفسه في خياله وضميره مكان الآخر، يَعذره ويَشعُر بَبعض شُعوره.

أتذكر قصة في أحد الأفلام الأجنبية التي تُهدي نفس الحكمة؛ حيث يؤيد رئيس القسم المتخصص في علاج الأورام الخبيثة في مستشفى أمريكي شهير، مدرسة “نظرية عدم التعاطف مع المريض”، والتي تتلخص في أن التعاطف يَضر بالمريض ويُشتت الطبيب، ولهذا يجب مصارحة مريض السرطان بمرضه واحتمالات نجاته من عدمها، وإعلامه بكل الحقائق دُفعة واحدة… وعندما يتعاطف طبيب تحت رئاسته مع المريض كان يُعنفه ويلومه بشدة… وإن كررها يعاقبه. 

ذات يوم شَعر رئيس القسم بألم في وجهه، وحين خَضَع للفحوصات، ظهر احتمال ورم خبيث، فلجأ إلى الطبيبة الزميلة المتخصصة في هذا النوع من الورم، وعاني كثيراً من الانتظار حتى ظهرت النتيجة إيجابية، وخضع للعلاج مع المرضى لدى الطبيبة التي تؤيد نفس مدرسته، فأذاقته مُر المدرسة التي يُناصرها، وعانى البرود والجُمود والمُعاملة الخشنة من الطبيبة، وعندما فاضت مشاعره؛ صرخ في وجهها: “أنا زميل لك، يجب عليك مراعاة ما أعٌانيه من أزمة نفسية”، فتصرفت وكأنها لم تسمع شيئاً، تجاهلته وأدارت وجهها بعد إعطائه تعليمات العلاج.

حين مكث في المستشفى مع المرضى، تفاعل مع فتاة عشرينية في مراحل مرضها الأخيرة، وقف معها حتى اللحظات الأخيرة، فخاض معها تجربة إنسانية عميقة ومأساوية… حتى توفيت الفتاة، وشُفي هو في النهاية وظهرت نتائج سلبية للورم، وعاد لعمله.

وجاء مشهد الختام للفيلم، حين جمع كل الأطباء والممرضين تحت رئاسته، فألزم كل واحد منهم أن يختار نوعاً من الأورام، ثم يعيش فترة كمريض حقيقي، ينام على سرير المريض، ليتفاعل مع المرضى ويعيش هُمومهم ومخاوفهم.

نتعلم من القصة أن التعاطف المبالغ فيه قد يكون مضراً بالمريض، مثل الأب الطبيب الذي لا يستطيع لتعاطفه الشديد إجراء عملية لابنه، لكن عدم التعاطف والجفاء أشد ضرراً، والمطلوب هو قدر من التعاطف الدافئ والمراعاة الحنونة للمريض.

أليست تلك الفكرة توحي بقليل من التعاطف بين المختلفين في الآراء والعقائد، فيشفق كل منهما على الآخر ويضع نفسه مكانه، فيدرك أن العقائد الموروثة من البيئة تختلط بلَحم الإنسان وعظمه، فلا يسهل التخلي عنها، فلا يصفعه في عقيدته مباشرة ودفعة واحدة، ولا يعتبره خبيثاً أو شريراً بسبب تصنيفه مخالفاً في العقيدة، ويكون الحوار بين الإخوة والمحبين، ولا تكون الاستجابة مشروطة بالعقيدة، ونتخلى عن فكرة أن الحب أو الرحمة فقط لمن هو مثلي.

ألا تعلم أن نسبة المنتقلين من دين إلى دين، أو من مذهب إلى مذهب، أو من حزب أو جماعة أيدلوجية إلى أخرى، أو حتى من الأهلي إلى الزمالك، هي نسبة لا تتجاوز ال 0.001% من البشر، وهذه النسبة تبين لك صعوبة الاستجابة لتغيير المعتقد.

قام أحد المراكز البحثية بالولايات المتحدة الأمريكية بحشد مجموعة من مؤيدي الحزب الجمهوري، ومجموعة أخرى من مؤيدي الحزب الديمقراطي.. فجلس مؤيدي الحزب الجمهوري في غرفة، وألقى عليهم مرشح للحزب الجمهوري خطبة دعائية، احتوت “عمداً” على عدد كبير من المتناقضات التي يسهل ملاحظتها والانتباه إليها، واستمع المؤيدون له وهم سعداء، واستحسنوا كلامه وأكثروا من التصفيق بحماس. 

ثم قام المرشح الجمهوري بإلقاء الخطبة نفسها على مؤيدي الحزب الديمقراطي… فاستمعوا له في تحفز، وأدرك المستمعون بسهولة تناقضات الخطاب وقاموا بنقده ورفض مغالطاته.

وحين تكررت التجربة بمرشح من الحزب الديمقراطي، تكررت نفس ردود الأفعال، المؤيدون فات عليهم ملاحظة التناقض، في حين تنبه له المعارضون بسهولة.

في هذه التجربة قام العلماء برصد حركة المخ لدي الجميع، فتبين أن مع المرشح المؤيد يعمل الجانب العاطفي من المخ، بينما مع المرشح المعارض يعمل الجانب المنطقي من المخ.

وأخيراً… لنرفق بأنفسنا ونرحمها.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.