أوراق الحلم

أوراق الحلم

اللوحة: الفنان السوري نذير نبعة

محمد محمود غدية

ترتعش الأنوار الصغيرة، حول البيوت المعتمة، النجوم توشك على الانطفاء، وحده يمشي بخطى وئيدة، مثل فارس خسر معركته مع الناس والحياة، توهم انه أقوى من الانكسار وانكسر، وأقوى من الموت، حتى باتت روحه موشكة على الغروب، إنها الأوجاع التي تتضاعف حين يكون الإنسان وحيدا، رائحتها تنبعث من قميصها، الذى مازال معلق خلف باب غرفتها، الليل يتلفع بعباءة البرد، دونها تتكاثف العتمة، شيئا خاصا كان يميزها عن جمهرة حسان النساء، وجهها في نضارة الورد جاذب للقلوب جذبا لا سبيل الى مقاومته، صرير القلم على الورق يخدش سكينة الصمت، ضوء المصباح المتأرجح، ينعكس على الورق، ويرقص رقصة الطير المذبوح.

في دعابة سألها: متى تكذب المرأة؟ فأجابت من بين ابتسامتها: إذا تحركت شفتاها! مازال مأسورا بضحكتها التي كشفت عن اسنانها اللولية، وهى السمراء المعجونة بثمار التمر، حضورها فكه وزكي وباهر، أليست هي من أتاحت للعشب الأخضر ان ينمو فوق جدران عقله وقلبه معا، طيبة ونبيلة مثل مطر منعش، يطيب للإنسان ان يتبلل به في كل الفصول، يشكو لها مواجعه ومثله له عذر، ومثلها يعذر، كل الطرق والحارات والأزقة توصله اليها، حتى الطرق المعاكسة لا تخلو منها، كل صباح يرتشف فنجان قهوته المرة دون تلذذ، لأنها ليست من صنعها، يقلب كتاب العمر ويتصفح أوراق الحلم، قالت له يوما: 

لا أريد رجلا يملك العالم، وإنما رجلا يعاملها كأنها العالم

بعدها بات الفرح شحيح، يتسرب من جنبات العمر كالهواء، وتبقى وحدها الأحزان تفترش المقاعد والستائر والحجرات والعيون، يبحث عنها في كل الوجوه، وفى الأغنيات وتغريد البلابل، وكمنجات أوراق الشجر، في لون البحر والسماء، وأجنحة النوارس، في كل الأماكن التي باركت حبهما، عيناها تبسمان بحران من فيروز ومرجان، يدعونه لمشاركتهما الصفاء والنقاء والبهاء، تسبقه خطاه وأشواقه ويداه، فلا يجدها.

  • شموع وغربال وملح

رائحة ضفائرها موغلة بذاكرته، لم تستطع الجدران الصماء، وصرير الأبواب الموصدة، حجب وجهها الذي كان في لون سنابل القمح، وابتسامتها التي كانت أشهى من ثمر التوت والبرتقال، تشرق منه وتغرب فيه، واسعة العينين يتعانق فيهما الجنون بالثقة، تذيب الصخر وتشيع الدفء، ثمانية عشر عاما على رحيلها، ومازالت تأتيه عابثة مراوغة، تغازله حينا، وتختفي وراء باب حجرتها، تستفيق روحه المجهدة على السنوات الست الأولى، وتباطئ الحمل الطبيعي، في تساقط الأجنة قبل اكتمال النمو، ويتوه الزوجان في زحام الكون الكبير، وتشجيع أم الزوجة القلقة، بين الأطباء والدجالين وسحر العرافات، في ليل الرماد الطويل.

لا خيارات أمام الزوج سوى الاستسلام لدموع الزوجة وحلمها بالأمومة، دارت بهما الدنيا في دروب معتمة، لا أمل فيها ولا رجاء، الزوج لم يدخر وسعا في التخفيف عن آلام الزوجة بالترفيه، في رحلات يرتادا فيها المسارح والحفلات والسينما والمصايف.

حتى كان يوما.. جلس وزوجته على سلم إحدى البنايات الخالية من السكان، بعيدا عن شاطئ البحر، ظهر أمامهما رجل بسيط الحال، يكسو لحمه العظم، يسير بخطى وئيدة، لضمور في الساقين والذراعين.

 فتح الزوج حقيبة طعامهما، وطلب من الزوجة أن تعطيه طعاما، ربما تأتيها دعوة طيبة منه، وكانت الدهشة في رفضه للطعام، مشيرا الى بطنه، التي يبدو أنها ممتلئة بالطعام، مقبلا باطن وظهر كفه، متطلعا للسماء شاكرا لله، روعهما انه أيضا فاقد للنطق، لا يجيد سوى الابتسام، ما هذا الرضا رغم كل ما فيه، بكت الزوجة التي شعرت بالضآلة أمام نفسها وما شاهدته، وقالت: يأرب.. بعدها كانت الحلوى والشموع والغربال والملح، في استقبال مولودهما الأول.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.