اللوحة: الفنان لإيراني علي رضا باكدل
مارا أحمد

يظل الألم رابضا بين ثنايا عظامي وفي صدري، يركض كما حصان في سباق، ألتقط أنفاسي التي استحالت كما الزئبق قاتلة، أمضغ اللقيمات بلا تذوق بلا اشتهاء، أشاهد الفيلم فلا حس للألوان ولا تمتع بالمحتوى، لا أفضلية لليل ولا لليوم.
أنا أحصي عدد الدقائق والساعات والأيام؛ لأحصي عمر هذا الفيروس اللعين؛ متى يأتيه الموت فيرحل عن جسدي، الذي جعل منه مرتعا له. الألم أفقدني طعم اللحم والخبز بل والماء، والأكسجين ضنَّ بذراته على رئتي، إن لم تغادر أيها اللعين فليتك تخلي بيني وبين الموت؛ دعني أغادر، ولكن هل حقا أتمنى الرحيل؟!
لا؛ فرغم تاريخي مع الحياة وعلاقتنا غير الحميمة إلا أنه مازال هناك الحلم، الأمل في إنجاز جديد أو تغير ما في الأحداث، أو انتقال ما إلى حياة أخرى أفضل.
ما زلت أتشبث بحقي في اقتناص شيء من السعادة، لكن ما هو نوع الحلم؟ وما هو نوع الأمل؟ بل ما هو نوع السعادة…؟!
ربما الميل إلى المعروف والمعتاد صار إرثا وثقافة تدفعنا إلى التشبث بما هو مألوف عن غيب نجهله، هل سأسير في ذلك النفق المظلم الذي يطول ثم تنقشع عنه الظلمة فجأة لأشاهد ذلك الضوء في نهايته؟
ولكن ماذا بعد الضوء؟ ما وراءه؟ هل هي مراعي خضراء سندسية الملمس تحفها الزهور والملائكة وأنهار من عسل؟
الإعلام يخوض حربه مع الخبراء والمحللين، وأنا أخوض حربي مع الألم والنعي المتواصل لضحايا الكورونا والخوف.
“تصحو على بلد غريب لا تعرف أغلب شعبه، ولكن هناك يقين بداخلها أنها تعرف هذا البلد وتشم على أرضه رائحة أحبة سافروا إليه قبلها، تتحسس صدرها وجسدها، لقد برأت من الألم والوجع؛ يبدو أن الفيروس قد غادرها، رأت ناسا يتحركون أمامها وخلفها وعلى اليمين واليسار وهم يرتدون ملابس غريبة ليست لها ملمس القطن أو حتى الحرير الصناعي بل كانت ملابس افتراضية؛ يضغط أحدهم على زر باليد فتتغير ملابسه في لحظة، مرة (بنطال وقميص) ومرة (شورت قصير وتي شيرت) ومرة (بدلة سهر) وهكذا النساء. وقفت ونادت على أحدهم، نظر إليها تعلو وجهه الابتسامة الصافية التي تمنحك السلام والأمان.
سألته: أين أجد أقرب سفارة لبلدي؟
– أنت في بلدك، لماذا تحتاجين السفارة؟ ثم لا سفارات هنا؛ فنحن نقطن أرضا واحدة، لا حدود، لا جوازات سفر، لا لغات؛ بل لغة واحدة، ولا أعلام، فالجميع على علم بأرضه وبيته، لن يضل.
– لا، أنا لم أر هذه المناطق من قبل؛ كل شيء هنا جديد؛ لم أعتد تلك المخلوقات والناس،
كيف أذن أجد سيارة أجرة؟
– تستطيعين أن تطلبي أية سيارة تسير بالطريق عن طريق ضغط زر بمعصمك.
– أنا لم أطلب من أحد أية أجهزة توضع بمعصمي.
– كل فرد هنا مجهز بأزرار ليلبي من خلالها احتياجاته.
– ولكن أنا لست من مواطني البلد؟
– بلى، أنت مواطنة، أنت منا الآن.
– وماذا عن النقود؟ فأنا لا أملك عملاتكم.
– ليست عملات، فلا عملات هنا، بل أجهزة تمررين عليها بصمتك فتمنحك ما تحتاجين من صكوك افتراضية تتسوقين بها، وهناك امتياز آخر ألا وهو أن تتحدثي في كفك فيمنحك الحق في الشراء والتسوق؛ فهناك شريحة غير محسوسة تحت الجلد تتواصلين بها مع كل أجهزة الإمبراطورية.
– في كفي؟
– نعم.
– ألا تخشون النصب أو السرقة؟
– لماذا نُسرق أو ينصب علينا؟! الجميع هنا لديه نفس الحقوق ونفس الرصيد.
توجهت لمعرض السيارات على يميني وسألت عن ثمن إحدى السيارات، فقال لي صاحب المعرض:
– أية سيارة هي في متناول يدك وفي حدود إمكانياتك، لا تقلقي، فقط أريد بصمة إصبعك لأعرف رصيدك المتاح.
– لا رصيد لي بمصارفكم.
– بل حينما كنت بالعالم الآخر ادخرت الكثير في مصرفنا، كل ما صدر عنك من أعمال كنا نسجله على اسطوانة مدمجة تنتقل إلى المصرف المركزي، تحصلين منه على نقاط تنفقينها حين مجيئك هنا؛ كان يتم الادخار لك، فنحن نتقن العدل والنظام.
أحضر جهازا مررت عليه سبابة يدي؛ ليمنحني في أقل من دقيقة مفتاحا يعمل بالإشارة عن بعد. سألته عن رخصة القيادة وطريقة استخراجها.
رد قائلا: الرخصة تستلمينها عند أية إشارة مرور، والسيارات هنا تعمل إلكترونيا، بمجرد دخولك السيارة يعمل العقل الإلكتروني لتتحرك وتتجه بك إلى المكان الذي تم استحضاره في عقلك.
ركبت السيارة التي فتحت بمجرد اقترابي منها، ظللت أتجول بنظري إلى اللافتات التي تحمل صورا لحاكم المدينة؛ فلا وجود لها، ما هي إلا شاشات توضيحية وإرشادية للطريق وللمدينة التالية، وصلت لأول إشارة مرور؛ فإذا بالشرطي يطلب مني تمرير سبابتي على جهاز بيده، بعدها قال لي: الآن قد حصلت على رخصة القيادة.
سألته: كيف؟
رد قائلا: أعرف أنك مواطنة حديثة هنا؛ فكل المستجدين تنزل بياناتهم على أجهزة الإمبراطورية، وكذلك بصماتهم، وظهر هنا على الجهاز كل المعلومات عنك؛ اسمك وعمرك والحالة الاجتماعية والوظيفة التي أنهيت بها خدمتك، وسجلك الأمني.
تفضلي في أمان الله والعدل.
دخلت أحد الأسواق الكبيرة، بل كانت كل الأسواق بهذه الإمبراطورية كبيرة ومتوفر بها كل ما تحتاجه، بل وما كنت تحلم به؛ بمجرد أن أفكر في شيء أجده أمامي؛ كما كان يفعل الذكاء الإلكتروني على السوشيال ميديا، وكأنهم يقرؤون أفكاري؛ جمعت المشتريات وتوجهت للكاشير؛ فلم أجد أحدا؛ بل شاشة عملاقة كما الخيمة فقط تمر من تحتها؛ لتسجل ما جمعته من مشتريات وتسجل استهلاكك من نقاط؛ سبق وأن شحنتها عند دخولك السوق.
الجميع يلتزم بالنظام وهناك سرعة في المحاسبة فلا زحام ولا طوابير، فجأة تذكرت معضلة؛ وهي أنه لا بيت لي بهذه الأرض، لم يستغرق القلق مني طويلا؛ لأجد شاشة بداخل سيارتي تتحدث بأنها مسئولة عن نقلي إلى بيتي الجديد.
أثناء الطريق كنت أفكر وأتخيل شكل بيتي، وكيف أنني لطالما حلمت بمزرعة واسعة تغطيها الخضرة، وبيت واسع متوفر به كل ما أحتاجه من كماليات وخاصة الماء النقي؛ فلقد تركت بلدي وهي تعاني نقص الماء وحربا وشيكة لحفظ أحقيتها في نصيب عادل من النهر الذي لوثناه بمخلفاتنا.
في دقائق معدودة وصلت إلى بيتي الجديد؛ كان كما حلمت، إن لم يكن أجمل.
ركنت السيارة أمامه؛ فلا خوف من سرقة ولا إفساد من أي جماعة تكن حقدا أو ضغينة من عدم المساواة ومن الإجحاف في توزيع الثروات؛ فهنا أرض عادلة وإمبراطورية يكسوها العلم والقانون والنظام؛ كل السيارات متشابهة وكذلك البيوت، فلا تميز لأحد ولا تمايز بينهم.
كان الجو رائعا، لا اعرف هل كنا في فصل الشتاء أم فصل الخريف، فالجو معتدل ونقي، أتنفس (أكسجين) يخلو من عادم السيارات والمصانع، فلا وجود لثقب الأوزون.
اقتربت من عتبة باب بيتي الجديد، وهناك رغبة وحلم أن ألتقي بأمي وأبي وأخوالي وأعمامي وصحبتي.
فإذا برنات ناعمة وصوت يصدح بالمكان بلا جهاز، يسري الصوت من خلاله بل صوت بالمكان وكأنه عبر القمر الصناعي: استريحي قليلا وسنلتقي بك بعد قليل، سنلتقي بأحد الجنان القريبة منك.
رغم توفر كل ما أحتاجه، لم يسعدني إلا الوعد بأن أرى أحبتي فقط، لكن لا أدري لماذا لم أشعر بالتلذذ بما أمتلك أو بالسعادة، بل ملل ما تملكني؛ فالكل سواء، لا تنافس ولا أفضلية لأحد عن الآخر، ولا مجهود يبذل لتحصل على مبتغاك؛ بل أزرار وتمنيات، ثم تمتلك ما تتمنى، وكلنا متشابهون، فغابت المتعة.
ألتقط أنفاسي وأنا اتحسس جهاز التنفس الصناعي فوق أنفي وفمي، أجوب المكان ببصري لأجدني ما زلت هنا؛ حيث الفيروس والصراع والحياة، أخذت وقتا لأعرف لماذا أشعر بألم بساقي وكأنني عدت من رحلة طويلة، لم يكن حلما، فالحلم لا يأتينا مرتبا ومتسلسلا؛ الحلم يكسر القوانين والمنطق والمعقول. ربما إلهام لقصة..