اللوحة: الفنان الإسباني غابرييل بويغ رودا
سليم الشيخلي

بدأ الشتاء بالاقتراب والليل يطول، الأوحال تنتشر في كل مكان تملأ حفر الشوارع، الأزقة، النفوس، الرمادي يصعد الى السماء ويمتد الآفاق حاجباً نور الشمس، رمضان الأصيل يقترب، نخبئ الدعوات والأمنيات ونطلق إسارها فيه علها تصل السماء من أبوابها التي تفتح فيه أو تتلقفها الملائكة التي تتجول في لياليه، ومع اقترابه نزداد هدوءاً وكأنه الرمضان الأول في حياتنا، يزدهر فيه السوق قليلاً وتعرض فيه أشياؤه الخاصة كالعدس، وقمر الدين وأشياء أخرى تتقدس فيه.
– لازم نشتري لوازم رمضان من الآن.
قلتها بعد أن انتهينا من تناول العشاء، فقال حمزة:
– نكتبها على ورقة وسأجلب ما نحتاج من الشورجة وما نحتاجه من سوق جميلة عليك يا عمتي.
– صار.
وبدأنا نكتب في قائمة ما نحتاجه فوجدنا أنها أشياء قليلة لأكتشف أننا تعودنا على صيام مستبد منذ سنوات وأسميناه خلسة الزهد. كانت حصتي نزهة في سوق قريب أستطيع أن أصله سيراً على قدمي إن أردت فقررت ذات ظهيرة انفرجت فيها الغيوم عن شمس خجلى نشرت دفئاً وعافية على أسطح المنازل خرجت مع سعد (والعلاقة) ونقود لا تحملها الجيوب فوضعتها في كيس وسرنا، عند وصولنا الشارع العام تعب سعد فحملته على صدري لينطلق في الأسئلة من فمه ويديه، أتعبني، ركبت الباص إلى السوق الذي يبدو كيوم الحشر ومن بعيد تأتيك أمواج لغطه المتشابكة، اندفعت داخله حاملة سعداً الذي أصبح عبئاً ثقيلاً داخل هذه الزحمة .
– كم كيلو العدس؟
– ٤٠ دينار
– غالي شوية .
– عدس نظيف، إيراني وصل البارحة للسوق.
– زن لي ثلاثة كيلوات.
وسرت بصعوبة إلى محل آخر، أخذت منه نومي بصره وقمر الدين وعلب كبريت، شموعاً فما زال تيار الكهرباء ينقطع عن منازلنا، وأشياءنا الصغيرة وفجأة دوت صافرة الإنذار.
– يا رب استرها علينا.
– غارة قبل رمضان!
– ما يريدنا نصوم براحه.
– لكن والله أصوم غصباً عنهم.
– يابه تعودنا على هذه السوالف.
– الله لا ينطيهم.
– كيف ما تكونوا يولَّ عليكم.
وبدأت جمل تتناثر هنا وهناك، وجوه يعلوها التعب، خوف يتسلل من كثافة أصوات الصفارات التي ملأت بغداد. صوت انفجار قنبلة أخرس الجميع فبدأنا نتحرك آلياً، احتضنت سعداً أكثر، نظرت إلى وجهه كانت عيناه تفتح شبابيكها وتصبح دهشة وهو ينظر إلى ما يحدث للناس، بدأ يتفرج علينا ونحن نفقد حواسنا ولغتنا ونسير بهدوء، وما هي إلا لحظات وتسقط قنبلة أخرى قريباً فتدافعنا للهروب من الزحمة، إلى شوارع عريضة، تساقط البعض فصاح أحدهم.
– إخوان بهدوء، على كيفكم، يعني الواحد يخلص من قنبلة ويموت تحت الأقدام.
حركت جملته الناس فبدأ مسحوق الهمس الذي انتشر قبل قليل يرتفع ثم يختفي.
– هذا الصاروخ وقع قريباً.
– انظروا هناك دخان وغبار، وأشار الى ناحية التفتت إليها رؤوسنا.
– الظاهر صاروخ صغير.
– يقولون ما إلنا شغل بالناس، شو طلعت براسنا بس.
– الله ينتقم من الظالمين.
أمطرت السماء من مكان بعيد أغنية بغدادية قديمة “أريد الله يبين حوبتي بيهم” لتملأ الفضاء أحسها الآن تخرج من قلوب الجميع، باطن الأرض في الهواء تستعجل الخلاص.
– يمه سعد.
ولممته بقوة إلي، نسيت أين أضعت “علاقتي” وأنا أنظر، تدفعني الزحمة ويحاصرني الخوف.
– الصاروخ صغير، فالنار ليست كثيفة.
بدأت أتوجس خيفة أكبر فالدخان القريب البعيد يتصاعد من ناحية محلتنا. توقفت السيارات ودخل قسم منها يحتمي بالشوارع الجانبية، والموت يتجول راكضاً هنا وهناك ينشر أذرعته ليلتقط ما يشاء. بدأ الناس يسيرون بهدوء ما بعد العاصفة، وبدأت بالسير نحو البيت ملتصقة بسعد الذي كان ينظر حواليه دون اكتراث، امتد به الزمن مستغرباً أني لم أجبه على أسئلة عديدة ليعرف ما يحدث، ليبدو الناس كالمهرجين تارة وكالموميات تارة أخرى، عبرت الشارع العريض بسهولة رغم أصوات صافرات الإسعاف البعيدة وصافرات الإنذار. كم أصبح البيت بعيداً، كلما اقتربت منه ابتعد، الدروب تمر حولي وأنا أبحث وسعد يجلس على كتفي ويدلي قدميه على صدري، ويداه الصغيرتان تطوق رأسي وتنزلق لتسد الرؤية أمامي فأبعدهما بتوتر فاض بي، فلم أعد أعرف شيئاً عما يدور حولي وأين أنا، لم أتوقف عن الحركة والبيت يبتعد، يقترب والدخان يجيء من مكان يشكل حجاباً ثانياً خلف السحب الحبلى والشاهد الوحيد الذي رأى الطائرات المغيرة قبل وصولها، وهي تقذف صواريخها في كل مكان .
– شبيك الولد راح يوقع، قالت امرأة وهي تمد يديها لتلقف سعداً قبل أن يسقط على الأرض.. أجلستني الرصيف وأتت بإناء ماء شربت منها، غسلت وجهي ونظرت إليها، وجه من هنا ملتصق بجذور الأرض مددت يدي إليها فمدت روحها تتلقف رأسي وتضعه على كتفها لنبكي على أنغام الصواريخ المتساقطة وسيارات الإسعاف. أعادت لي دموعها بعضاً من كينونتي لأقف على قدمي وأستمر في مسيرتي بشارع أعرفه، البيت قريب. يتوقف القصف قليلاً وينتفض الناس من المفاجأة لتعود الحياة كما هي فالأيام متشابهة كحبات مسبحة عتيقة تكسرت بعض أجزائها، أدخل شارعنا، الناس متجمعة هناك قرب دارنا، فاهتز القلب بعنف لأركض إلى الناس المتجمعة قرب داري، والعباءة السوداء تهفهف خلفي وتركض معي، التفت المتجمهرون إلي فجاؤوا يهرعون كموجة عالية فتسمرت مكاني. كان الموج يعلو وأنا أحضن سعداً والعباءة تهف راية سوداء كتب عليها سفر طويل يمتد من حيرة جدنا آدم إلى ما بعد الطوفان الوطني، أخذتني الموجة بلجتها لأصبح قلبها.
– الله يرحمهم.
– عظم الله أجركم يا أم حسين.
– كلنا أهلك، إخوانك، عيالك.
– يلعن أبو الأميركان واللي دزهم علينا.
– أريد الله يبين حوبتي بيهم.
تتشابك مع جمل أخرى لتفقد معناها وتسودني بذهول وخوف أثقل جسدي فوقفت، حاولت أم سعدية أن تأخذ سعداً من بين يدي وقد علا صراخه لكن يدي التصقت به، سرت ببطء نحو الدار المهدمة وبقايا الدخان والأتربة تشق طريقها إلى السماء، أرجوحة تصعد وتنزل لترسم الهزيمة الأخيرة على المنزل الذي لم تعد له جدران و رائحة البارود تفوح منه، التصق الجزء العلوي بالأرض، فلم يعد هناك إلا أثر بيت كان به ناس تحلم، تتأمل، تتألم وتعيش فرسمت على جدرانه كل تعبهم.
– اتصلنا بالدفاع المدني وسيأتون لرفع الأنقاض.
– سنتساعد جميعاً على رفعها. لنبدأ الآن، يا الله يا إخوان.
التفت إلى الباحة كانت عشتار شامخة وجدائلها مفروشة تستقبل الحمام الذي استفزه صوت الانفجار ثم عاد إلى أعشاشه. جلست تحتها وكل شيء هادئ في الجبهة الشرقية، اتكأت على جذعها وضعت سعد الصغير بين قدمي الممددتين، لمست رأسه الصغير لأمسح عن وجهه دهشة دفعته إلى البكاء ولأغمض عيني فجاء حسين وسعد وأم أمين وأمين وبيده كرة بيضاء، سميرة وبيدها أحد كتب جدها واليد الأخرى تمسك به، كل الذين رحلوا يمدون أياديهم يطهرون روحي وبدني فاستسلمت للنوم مبتسمة على صوت ناي جنوبي وطفلة تلعب قرب ساقية صغيره مع الضفادع في قرية الصويرة، من بعيد يصل إليها خوار بقرة.. “أمـماه” وعجلها يركض حولها.
اجمل التحايا
ما اشبه البارحة باليوم .. كأننا في كربلاء مستقر .. دم ودم وشهداء ضحايا الرغبة بالحق والوقوف عنده ..
كاتبنا الجميل سرد رائع وامساك بمقدرة بتلابيب الحدث والصورة المرعبة ..
إعجابإعجاب