يوميات هناء في نيويورك – ندوة

يوميات هناء في نيويورك – ندوة

اللوحة: الفنان الفرنسي أوجست رينوار

هناء غمراوي

بعض الأبناء ينجبون آباءهم، يستولدونهم من جديد! قد تبدو الفكرة غريبة عندما نحصر تفكيرنا في الإنجاب البيولوجي فقط! أن تنجب طفلاً لا يعني فقط أن تمنح الحياة روحاً جديدة! بل أن تعلن عن مسؤوليتك تجاه هذا المخلوق، أمام نفسك وأمام الله. سمعت هذه العبارة من أحدهم يصف بها صديقتي المهندسة، الشاعرة ميراي شحادة حداد حين قال؛ “إن ميراي قد أنجبت أباها، الشاعر عبد الله شحادة من جديد، وبعد أكثر من ربع قرن على وفاته حين قررت إحياء ذكراه بإخراج دواوينه الشعرية إلى النور بعد أن كانت تقبع كمخطوطات في الغرف المظلمة”. 

أحياناً، يراودني نفس ذلك الشعور؛ ذلك ان ابنتي ندوة هي أيضاً أنجبتني.. نعم استولدتني من جديد! بعد تقاعدي من الوظيفة في لبنان، وسفري الى أميركا وإقامتي معها.

غادرت لبنان ووصلت الى نيويورك في شهر مارس/ آذار، من العام الأول لانتشار جائحة كورونا التي غيرت نظام الحياة على سطح الكرة الأرضية آنذاك، وفرضت نظاماً جديداً من العزلة على الحكومات والأفراد..

بعد وصولي الى نيويورك أقفل المطار وتوقفت جميع الرحلات. كان الجو قاتماً وحرجاً جداً! توقفت جميع الأعمال، والوظائف. كما أقفلت جميع المدارس، والجامعات والشركات والمصانع. حتى عيادات الأطباء أقفلت وصار الأطباء يستقبلون مرضاهم عبر تطبيقات الكترونية كالزووم وغيرها. 

في ظل هذا الجو المأزوم والحرج جداً كان المطلوب مني أن أنخرط وأتفاعل في هذا المجتمع الجديد، والمختلف..

هنا بدأت رحلة ندوة معي، مع “مولودها الجديد”. حيث بدأت في وضع جدول لأولويات اقامتي هنا. والذي تضمن بالتأكيد التأمين الصحي، في فترة زمنية يجتاح العالم خلالها وباء قاتل! والتأمين الاجتماعي، وكذلك متابعة الخطوات الأساسية للحصول على الجنسية والترتيبات اللازمة لها..

أما الهم الأكبر والملحّ بالنسبة لها فكان؛ تمكيني من كسر حاجز اللغة، الذي كان يمنعني من التواصل مع كل من يحيط بي. 

لم تجعل أي من هذه المسائل يقف عثرة في طريقي، بل حاولت حلها بالتتالي بكل صبرٍ وتفان. وكون معظم تلك المؤسسات التي ذكرت كانت مقفلة بسبب الجائحة فإنها كانت تعمد لحل معظم الامور عبر الهاتف، حيث كانت تقضي أحياناً ساعاتٍ تنتظر على السمع لحل مسألة معينة دون أن يتسلل الملل الى نفسها. وكنت أنا اتعجب من صبرها، وطريقتها في مقاربة الأمور! فكانت مرات تبتسم وتقول لي: “انت لم تعتادي أسلوب الحياة، وطريقة حل الأمور هنا، صحيح اننا نتمتع بنظام دقيق وحازم ولكنه يخضع للكثير من الروتين الممل في التطبيق”. 

قضيت العام الأول من إقامتي في أميركا في متابعة دروس اللغة الانكليزية أونلاين. حتى في خلال رحلتي الأولى الى أوكلاهوما لزيارة شقيقي هناك، والتي امتدت لحوالي أربعة أشهر لم تتوقف ندوة خلالها عن متابعتي ولو عن بعد، والاطمئنان الى أن أموري كلها ميسرة في دراستي، وحياتي اليومية، كما انها عمدت الى تسجيلي في برنامج تعليميّ أونلاين، لإعداد المرشحين لنيل الجنسية الأميركية. كان البرنامج يبث من نيويورك يومين في الاسبوع، وكانت ندوة تتواصل مع جوزيف، الأستاذ المسؤول عن إعطاء الدروس باستمرار للاطلاع على حركة تقدمي في الدراسة وتذليل أي صعوبة تواجهني لجهة التوقيت، أو التواصل مع المعنيين ببرنامج الدورة..

أما أجمل مفاجأة قدمتها لي في تلك الفترة فكانت تواصلها سرا مع “غاي” جارة أخي الأميركية المقيمة قريباً جداً من سكننا في الريف، في أوكلاهوما، حيث اتفقت معها على مرافقتي في سيارتها الخاصة في الأول من أيلول من نهاية ذلك الصيف الى منتجع معروف في المدينة دفعت تكاليفه مسبقاً احتفاءً بأول عيد ميلاد يمر علي في أميركا. لم تشأ ان تشعرني بالوحدة والغربة وأنا بعيدة عنها في ولاية ثانية..

وأما المفاجأة الثانية فكانت تنتظرني فور عودتي الى نيويورك مطلع أكتوبر، حيث وجدت انها قد نظمت على شرفي رحلة مع بعض الرفاق الى أعالي الجبال لمدة ثلاثة أيام، لمشاهدة جمال الخريف هناك، كما وعدتني في أول زيارة لي العام 2010، حيث قضيت حينها عطلتي الصيفية في أميركا، وعدت مطلع العام الدراسي لاستئناف عملي في لبنان..

لا شك أن نصاً واحداً لن يكفي للإحاطة بالعناية والحب اللذين أحاطتني بهما ابنتي ندوة لدى قدومي الى نيويورك؛ ذلك أن بذلها في تقديم المزيد لم يتوقف أبداً! وحتى بعد مضي أربع سنوات من إقامتي هنا..

قد يبدو الكلام مستغرباً!.. من المعتاد أن يتكلم الأبناء عن مآثر الآباء، ولكني سمحت لنفسي بأن أخالف المألوف لشعوري الذي اشرت اليه في أول الكلام؛ بأنني مع ابنتي ندوة أشعر دائماً بأنها هي “الأم الحنون” وأنا “طفلتها المدللة”!.


الكاتبة وابنتها ندوة على ضفاف نهر Delaware الذي يفصل نيويورك عن بنسلفانيا

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.