رجل اسمه عباس

رجل اسمه عباس

اللوحة: الفنان الإسباني فرانشيسكو جويا

تتكثف في حياتنا قصص الظلم والقهر، وفي أغلبها يكون الظالم واحد أو آحاد من الناس، ويكون المظلوم جماعة أو شعب، والفرق بين الظالم والمظلوم، أنَّ الظالمين يتعاونون ويتكاتفون رغم قلة عددهم، وأنَّ المظلومين متفرقين وغير متعاونين رغم كثرة عددهم.

في عام 1976 شاهدت فيلما عن قصة «إحسان كمال- أحلام العمر كله»، بعنوان «رجل اسمه عباس»، بطولة «محمود المليجي»، يحكي عن مدرس تاريخ بالقاهرة، بعد أن يحال إلى المعاش يضطر للعمل في مدرسة بقرية في الصعيد، ويعلم أنَّه قد نشب بالقرية ثأر عنيف بين عائلتين، وكثر عدد القتلى ومعه عدد الأرامل. يرى مع رجل صعيدي حادث قتل، يرى الحادث معهما أناس آخرون، ومع ذلك لم يشهد أحد بما رأى، فعاتب المدرس صديقه الصعيدي وشرح له أن التاريخ هو شخص أو أهل بلدة قاموا بتغيير الظلم، وتعجب ألَّا يوجد في القرية من يجرؤ على الشهادة، يتأثر الرجل ويعزم على الذهاب لمركز الشرطة ليشهد، ولكنه يُقتل قبل بلوغه المركز، ولا يتردد المدرس في الإعلان عن نيته الشهادة، وينصحه المأمور أن لا يفعل وليرحل مع أسرته للقاهرة في حراسة الشرطة، وفي الصباح تستقل الأسرة السيارة ومعهم العفش وينتظرون منه أن يركب معهم، ولكنه يتوجه للقسم ليشهد، ثم يقول للمأمور: «لقد كاد الخوف أن ينسيني ما أعَلِّمه لتلاميذي»، ثم أدلى بشهادته.

ولا يعرف المشاهد ماذا حدث له بعد أن خرج للشارع، ولكن وصلت الرسالة للجمهور، بأنَّه يجب ألا يخلو الناس من نخبة تشهد بالعدل مهما كانت التضحيات والعواقب.

كنت أتمنى لو قام المؤلف بخطوة أقوى وأكثر واقعية، وهي أن يُقنع المدرس فردا أو اثنان بالذهاب معه، فيتساندوا، فأغلب قصص الفدائيين أفراد شهداء، ومواجهة الواقع الظالم، يتطلب أفراد يتصدوا معا للتغيير.

***

في مقال للإمام «محمد عبده»؛ كتبه بمناسبة ذكرى تنصيب رائد الأسرة العلوية «محمد على»، طرح سؤالا: «الشعب المصري في مقاومته للحملة الفرنسية، عام 1798م، لم يدع الجنود الفرنسيين يهنئون يوما واحدا طوال سنوات الاحتلال القليلة، عاشت فرنسا في جحيم مقاومة مستمرة لا تهدأ، حتى رحل الاحتلال. في حين أنه نفس الشعب الذي هُزم زعماؤه «عرابي وجنوده» بسهولة عام 1882، وبعد الهزيمة دانت البلاد للإنجليز وهدأت مقاومة الشعب وتقبل الاحتلال إلى حين، فكيف يُفهم هذا التناقض بين موقف المصريين في الحالين».

أجاب «محمد عبده» قائلا: «أعترف أن “محمد علي” هو باني الدولة المصرية الحديثة، ولكن الثمن كان خنوع الشعب وفقده لقدرته وثقته بنفسه، فبنى دولة وهدم المواطن».

في هذا المقال عرفنا أهمية الشعور بالإباء والكرامة عند الشعوب، وأنها حين تزول من الناس يسهل ظلمهم وقهرهم.

***

ذكر الكاتب «صلاح عيسى» فى كتابه “هوامش المقريزى.. حكايات من مصر”: كان (بارتلمى سيرا) وجنسيته يوناني، وكعادة المصريين في السخرية من جلادهم سموه (فرط الرمان) أيامها – في أواخر العهد المملوكي – كانت مصر ميدانا خاليا لسفلة الأجانب، ولأنه كان يحترف العسكرية فقد التحق بخدمة الأمير المملوكي محمد بك الألفي، في فرقة الطوبجية – أي سلاح المدفعية، وعندما جاءت «الحملة الفرنسية» إلى مصر وعين وكيلا لمحافظة القاهرة، أشبع بذلك نهمه للقتل والتعذيب، إذ كانت هوايته المفضلة هي القتل الجماعي للمماليك والمصريين، على السواء، وكان يطوف في شوارع القاهرة والسيف مسلول في يده، وحوله وأمامه قوة تبلغ المائة من اليونانيين، غلاظ القلوب على شاكلته.

بسبب إسرافه في القسوة وإمعانه في الظلم ورغبته في التشفي من الشعب المصري، ذهب مباشرة – بعد واحدة من جولاته – إلى الجنرال «دي بويوي» الحاكم العسكري الفرنسي لمدينة القاهرة، وكان يتناول الغداء مع بعض ضيوفه فقدم إليه زكيبة ظن الجنرال أول الأمر أنه تحوي هدية، بطيخ أو شمام، فأمر بفض الزكيبة فإذا بها تحتوى على اثني عشر رأسا من رؤوس المصرين الذين قتلهم، جاء يعرضهم على رئيسه الجنرال فخورا ومختالا، وامتعض الحاضرون من هذا المشهد الدامي، وأمر الجنرال بإخراجه مع زكيبته من قاعة الطعام.

***

هناك شخصية شهيرة ومتكررة في القرى المصرية، تسمى «رجل الليل»، شقي يؤجر لقتل إنسان مقابل مال، يأتيه شخص يريد التخلص من منافس أو عدو، فيعطيه مالا ومعلومات عن الشخص، فيتربص به ويقتله، وفي العادة يحيا هذا الشقي في حماية ثري من الإقطاع، يستخدم الثري سلطته لمنع القبض على الشقي وتسهيل اختفاءه، وفي نفس الوقت يكون الشقي أداة يُسلطها الإقطاعي على الناس، فيقوم ببعض المهمات لصالحه، فيقتل من يطلب منه الإقطاعي قتله.

هذا الشقي كان يثير الرعب في أهل عدة قرى، ولا يجرؤ أحد أنْ يشي به أو يشهد ضده، ويحيا الناس في ذل، وكلما تأمَّلتُ في هذه الشخصية كنت أتعجب من الناس، كيف لرجل أو بضعة رجال من الأشقياء أن يهينوا عشرات الآلاف من الناس ويقهروهم، ألا يستطيع بعض الشباب التطوع لمواجهتهم معا!، للأسف مثال الشباب الذي يتصدر نادر في تراثنا، فالخوف وحفظ النفس بأي ثمن هو عقيدة الفلاحين عبر القرون الأخيرة، وحين ينتشر الجبن في الناس وتنعدم المبادرة والنخوة لا أمل في التخلص من الذل والإهانة.

لو قام رجال بالاعتداء على أهل بيت، يغتصبوا النساء والأموال ويهينوا الرجال، في تلك اللحظة لا بد من الدفاع عن النفس فورا، أو الانتقام بعد انتهاء الحدث، ولكن لو مر الاعتداء وتشرب الناس ومن حولهم الإهانة ولم يفكروا في التعاون لرفع الظلم ومنع تكراره، سوف يحيا الناس على الهامش، يُظلمون ويهانون بلا نية مقاومة، ويعتادوا الظلم ويتشربوا الذل.

***

في عصر أسرة «محمد علي»، كانت تفرض الضرائب على الفلاحين بالقوة، ومَن لم يدفع تصادر بهائمه وممتلكاته ويُجلد أمام أهل بيته، وبهذا كانت الإهانة تمارس أمام الزوجة والأولاد والأهل، ويصمت الجميع، ويتكرر الحدث مع الجميع ويعتاد الناس الإهانة والظلم بلا حدود، ولا يخطر ببال شباب القرى التعاون والمغامرة والكفاح بالعمل على تغيير الوضع أو تخفيف الظلم.

***

قتل الأمريكان أحد الشخصيات المتهمة بالإرهاب، وكان له أخ مسجون بأحد الدول الديكتاتورية، فطلب السفير الأمريكي من المسؤولين عندهم، أن يحضروا شيئا من أخيه المسجون كي يتأكدوا من شخصية القتيل، فاقترحوا عليه أن يعطوه ذراعا، فرد في انزعاج: «يكفي خصلات من شعر رأسه».

***

أتذكر هذا الفيلم الأمريكي بعنوان «مواطن ملتزم بالقانون – law citizen abiding»، يَقْتحم لصان منزل به رجل وامرأته وابنته، يقتل أحد اللصين المرأة بعد أنْ يَغتصبها أمام زوجها ثم يَقتل الطفلة، ويُقبض على اللصين ولكن نظرا لأنَّ الزوج هو الشاهد الوحيد، وأنَّه فَقَد وعيه أثناء الاقتحام، لم تكن الأدلة كافية لإدانة اللصين، ويوشك بواسطة ثغرات القانون أنْ يُفْرج عنهما، فيُجْبِر نائب المدعي العام، الزوج على أن يَقبل صفقة تجعل القاتل يَشهد على زميله الذي لم يَقْتل، فيعُدم أحدهما ويُحكم على الشاهد بخمس سنوات فقط، تمر عشر سنوات ويعود الزوج لينتقم من الجميع، الزوج مهندس عبقري يقوم بتدبير قتل عنْ بُعْد للجميع، قتل انتقامي وتدريجي وليس دفعة واحدة، ورغم حبس المهندس، يَستمر القتل عنْ بُعد.

لست من هواة أفلام الجريمة أو الحركة وكدت اتوقف عن مشاهدة الفيلم، ولكني أحسست أنَّ الفكرة تتجاوز غَرَض الإثارة السينمائية، فالزوج السجين ظَلَّ في السجن يقتل عن بُعد، يَقْتل مَن!، «اللصوص. القاضية. المحامين. وكلاء النيابة» يتوقع المزيد، ووصل الأمر إلى أنَّ عُمدة الولاية فرضت الطوارئ على المدينة تَحَسّبا لتدمير بلا حدود بسبب هذا المهندس المحبوس.

يخطر بالبال سؤال مصري عربي بديهي، لماذا لم تَغْتال السلطة بنفسها الرجل الذي بين أيديهم، أو تسلط عليه مجرم آخر يقتله وتكون أيدي السلطة نظيفة، لماذا لم تُعذبه ليعترف بما يخطط له، حتى يتوقف مسلسل القتل؟ فلو كان هذا فيلما مصريا لانتهى في دقائقه الأولى باغتياله أو تعذيبه حتى يعترف، ولو رأى العربي هذا الفيلم لما أعجبه ولا اقتنع به ولرآه ساذجا، لأن من بديهيات العربي أنَّ الإنسان مُستباح، وخاصة حين يُتهم بالإرهاب، ولكن عند الغرب هناك دستور وقانون وحقوق، ولا يستباح الإنسان إلا من خلالهم.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.