اللوحة: الفنان البرازيلي ماركوس جينوزا
مصطفى البلكي

والدي عاش زمنا طويلا يحرث الأرض ويعمر بيوتا في بلاد الناس، وعندما أحب، أحب أمي، وأخذها معه، وأسكنها شقة صغيرة بجوار البحر.. أمي عشقت البحر، وأحبت حديثها معه.
في الصباح، بعد أن تودع والدي تجلس وحيدة، تسحب كرسيا تضعه في الشرفة وتبدأ طقسها.. صوت أمي عال؛ فسمعه الجيران، وسمعه العابرون، والصيادون تعمدوا الوقوف قليلا تحت شرفتها؛ يستلفون منها شيئا من نهج بلاغة الحكاية.
أمي تكلمت عن وحدتها وأيامها في النجع البعيد، وأضافت قصصا عن أهلها مخبوزة بالحب؛ فاستفاق بداخلها يقينه؛ فوجدته يمشي في الشقة على قدمين
منصوب القامة وباسم الثغر وبغرة بيضاء في رأسه! سحب كرسيا وجلس بجوارها وقال لها: سأكتب عنك، فقصي عليّ من أنباء المغامرين.
أمي، لأنها بالفطرة، تكلمت، وقصت عليه حتى حكايات الغياب، وبعد تمام الحكاية جئت أنا على عينها في صورتها، تجادلت مع والدي حول اسمي، وفي نهاية المفاضلة قالت: ليكن حلما، وأصبح اسمي علامة أعرف بها!
غرست بداخلي أحلامها، وأضافت كرسيا ثالثا، أجلس بجوارها وتحدثني عن البحر والحلم، وعن رجل أحبته ولم تنل منه إلا الوجع! حفظت عنها كل شيء، ولما اشتد عودي قالت لي كن كاتبا، فكنت، وأوصتني بقصتها ما دمت حيا، وورثت عنها هشاشتها مثل بتلة زهرة.
ورغم أن حديثي لنفسي كان بعيدا عن عيون المتطفلين، وما كنت من هواة النميمة، ولا ممن يفتح ثغرات صباحية ليخرج منه كلامي، إلا أن أهل المدينة نقلوا عني الكثير؛ فأصبحت موضوعا محببا للنساء في الجلسات، وللرجال في المقاهي، حتى في الحانات ردد السكارى حكايتي، ولما اشتد عود الحكاية، قرر نفر منها قصف عودي حتى لا أكون فتنة بين الناس؛ جمعوا أمرهم وقالوا لنقتل الحلم!
في غفلة مني هموا بي، وغرسوا نصال خناجرهم، وفي الصباح، اجتمع الناس حولي، وبعد أن قامت الجهات الأمنية بالمطلوب، صرحوا بدفني.
تجمع أهل المدينة وساروا خلفي في جنازة مهيبة لم تشهدها الشوارع من قبل، وبعد عام، خرجت امرأة من بيتها تصرخ وهي تقول: «زارني حلم».
التفوا حولها، وقصت عليهم ما رأت، وتكرر المشهد كثيرا بطرق مختلفة، وفي النهاية نبشوا قبري؛ فلم يعثروا على شيء مني! ومن يومها وكل نساء المدينة يتركن شرفاتهن مشرعة لي.