اللوحة: الفنان الألماني إرنست لودفيغ كيرشنر
هناء غمراوي

ودّعنا أستوريا عشية عيد الميلاد، غادرنا البيت الذي سكنته ابنتي لحوالي ثلاثة عشر سنة، وزرتها فيه عدة مرات قبل أن أستقر معها أخيراً، بعد مغادرتي لبنان ربيع العام ٢٠٢٠ مع حلول جائحة كورونا. لم يكن هيناً علينا مغادرة ذلك البيت الذي أقمنا فيه كل هذه السنوات، ولكنه كان أمراً محتماً علينا أمام إلحاح المالك، بهدف ابرام صفقة بيعه لأحد الراغبين…
لست الآن بصدد الحديث عن بيت أستوريا وحديقته الخلفية، وذكرياتنا هناك على مدار كل تلك السنوات. وانما عادت بي الذكرى اليوم الى ما يقرب من سنة مضت، عنيت خريف السنة الماضية ولدى عودتي الى نيويورك من زيارة طويلة للبنان تجاوزت الأربعة أشهر.
ثمة تغييرات جديدة طرأت على يومياتي لدى عودتي ذلك الخريف؛ كان أهمها انتسابي لمركز الرعاية الاجتماعية في المدينة “هانيك”. بدايةً كان الهدف من دخولي ذلك المركز هو متابعة دروس تقوية في اللغة الانكليزية، والتي دأبت في السنوات السابقة على متابعتها (أونلاين). ولكن المفاجأة حصلت بعد ترددي الى المركز،
بحوالي أسبوعين حيث عرفت انني أستطيع ممارسة عدة نشاطات أخرى هناك، غير دراسة اللغة، التي كنت اتابعها يومين فقط أسبوعياً؛ منها التمارين الرياضية على أنواعها؛ كاليوغا أو الرقص، أو صناعة الحلى، والرسم على أنواعه…ولا أنسى الرحلات، التي كنا نقوم بها أسبوعياً بمشاركة ليندا، معلمة الرسم. والتي كنا نقصد خلالها متحف، Queens Museum لمشاركة زملاء آخرين لنا قادمين من بعض الفروع الأخرى لمركز هانيك.
ما أتاح لنا التعرف إلى أصدقاء جدد يشاركوننا نفس الشغف ونتبادل واياهم خبرات انسانية وفنية جديدة، سيما أن رواد حصة الرسم في المتحف، وكما جميع سكان نيويورك ينتمون في الأصل الى جنسيات وعروق مختلفة… وقد خُصصت لنا قاعة خاصة داخل المتحف لهذه الغاية بإشراف مدرّسة أخرى كانت تحرص على إعطائنا كل يوم أربعاء، تقنيات بسيطة وجديدة في الرسم . وفي نهاية الحصة كانت تجمع منا الرسومات مزيلة بأسمائنا وتحفظها عندها من أجل عرضها في نهاية الدورة، التي استمرت لحوالي ثلاثة أشهر…
ومع انني لم أواظب على الذهاب اسبوعياً الى المتحف والمشاركة في حصص الرسم جميعها بسبب انتقالي الى دوغلاستون، الا أنني دُعيت في نهاية الدورة لحضور معرض اللوحات المشاركة، فكانت مساهمتي في المعرض بسيطة بسبب تغيبي القسري والانتقال الى السكن الجديد. ومع ذلك تسلمت شهادة رسمية مع الجميع في حفل صغير تم خلاله تقديم بعض المأكولات الخاصة ببلدان الأعضاء المشاركين، الذين تعددت أصولهم كما أشرت ؛ وكانت مناسبة للتعرف الى الحلويات اليابانية، وبعض الأطعمة الصينية والهندية…
غادرت منزل استوريا وحديقته الخلفية مع ما كان لي معها من ذكريات (الشواء في أيام الصحو، والزراعة المنزلية التي مارستها لأول مرة في حياتي، هنا في نيويورك وجلسات الأرجوحة مع الجيران؛ كريس وروز)
غادرت منزل أستوريا قبل حلول السنة الجديدة بأيام الى شقتنا الجديدة في دوغلاستون، التي كانت تبعد حوالي نصف ساعة بالسيارة عن سكننا القديم.
غادرتها ولكنني لم أغب عن مركز الرعاية “هانيك” سوى لأسابيع فقط. وكانت ندوة في تلك الأثناء تبحث لي عن مراكز رعاية قريبة من سكننا. وقد اصطحبتني معها أكثر من مرة لمعاينة بعضها وأخذ موافقتي قبل ان تعمد الى تسجيلي في أحدها؛ وهذا ما حصل بالفعل بعد عثورنا على مركز قريب، ويؤمن النقل ايضاً من والى البيت. كان شاغلي الأول بعد دخولي هناك هو السؤال عن حصة الرسم في المركز الجديد. ومع أنهم أكدوا لي وجودها الا انها كانت فعلياً عبارة عن حصة تلوين لرسومات جاهزة كالتي ينفذها الأطفال في صفوف الروضة. فلم تنل إعجابي ولم تلبِ شغفي إلى الرسم كعهدي في المركز السابق.
علما بأن هذا المركز (Snap) كان يقدم يومياً نشاطات أخرى متنوعة. لذلك عدت لزيارة مركز “هانيك” برغم بعد المسافة بعد ان امنت لي ندوة سيارة خاصة تقلني أسبوعياً الى هناك ذهاباً وإياباً. بقيت أتردد على المركز المذكور حتى عودتي الى لبنان مطلع ذلك الصيف بالرغم من ان المركز الآخر snap كان قد خصص في يوم الثلاثاء من كل اسبوع حصة للرسم بعد الحاحي وطلبي المتكرر الى مسؤولة المركز. وهكذا صرت أحظى بحضور صفيّ رسم اسبوعياً الثلاثاء في مركز snap والأربعاء في مركز ال Hanac في استوريا بالإضافة الى الانشطة الأخرى التي كانت تجلب لي سعادة حقيقية تنسيني غربتي، وبعدي عن بيتي وبلدي وصديقاتي؛ سعادة كانت تجعلني أردد بيني وبيني: فعلاً “ليس بالخبز وحده يحيا الانسان”