حوار مع الشاعر والناقد التونسي نسيم سعداوي

حوار مع الشاعر والناقد التونسي نسيم سعداوي

اللوحة: الفنان الياباني كاتسوشيكا هوكوساي

الشاعر والناقد التونسي نسيم سعداوي من الأصوات الشعرية العربية المتميزة في مجال كتابة قصيدة الهايكو العربية ونقدها. وهو يرى أن الهايكو شعر لحظة يركز على الهشاشة والزوال، وعلى الصورة العابرة، بشكل مكثف ومختصر، ويمتزج بعمق مع التجربة الإنسانية والطبيعة، وعن نفسه يقول أكتب الهايكو لأنه يمنحني فرصة للتعبير عن لحظة، في عصرٍ طغى فيه الاستعجال وتقلص فيه التأمل، فالهايكو يتيح للمتلقي لحظة صافية للتوقف وإعادة التفكير. إنه شكل من أشكال التأمل الشعري الذي يتيح لكاتبه العثور على جماليات خفية في تفاصيل يومية بسيطة.. في حوارنا مع الشاعر نسيم سعداوي سنحاول إلقاء الضوء تجربته الإبداعية المتميزة وكيف بدأت وما هي المؤثرات التي ساهمت في بلورتها. هذا بالإضافة لآرائه النقدية حول قصيدة الهايكو العربية والإشكالات التي تواجهها:

الشاعر عباس محمد عمارة

س. في البداية نود أن نعرف نبذة عن حياة نسيم سعداوي الشاعر والإنسان؟

حياتي، كحياة أي شاعر، هي رحلة بحث وتشكُّل دائم. نسيم سعداوي، تونسي مقيم بفرنسا منذ عام 1998، عملت في مجال الاستشارات المتعلّقة بإدارة الجودة والحوكمة والشراءات الصناعية. بدأت رحلتي مع الهايكو من باب الفضول، بعد أن شاهدت برنامجاً وثائقياً عن حياة الرئيس الفرنسي جاك شيراك سنة 2004 والذي صرّح بممارسته ودراسته كهاوي للهايكو وجمعه لأعمال شعراء الهايكو اليابانيين الكلاسيكيين. صبيحة اليوم الموالي اقتنيت اول ديوان هايكو! كانت تجربة الكتابة بالعربية بداية عودتي إلى جذوري العربية، حيث وجدت في الهايكو مساحة للتعبير عن مشاعري وأفكاري بعيداً عن الاستعارات، بالاعتماد على جمالية الكلمة العربية وإيحاءاتها

س. وهل تأثرت بأحد؟

بالطبع، كان لكل من جلال الدين الرومي وبشار بن برد تأثيرٌ كبير على فهمي للشعر. أحببتُ في الرومي مزجه العميق بين الروحانية والفن، وفي بشار جرأته على اختبار حدود اللغة والتعبير. كما أن الفلسفة اليابانية، خاصة في الهايكو، ألهمتني رؤية الحياة ببساطتها وتعقيدها في آن واحد.

تعرفت بسنوات المراهقة على أعمال سميح القاسم وتأثرت كثيرا بتعاطيه للغة شفافة بلورية المعاني مشحوذة بروح مقاومة جلية فقد نجح في تشكيل لغة شعرية خاصة تمزج بين القوة والجمال. تميزت صوره الشعرية بالعمق والتكثيف، فهو يبني صوراً مركبة تجمع بين الواقع والرمز، بين المحلي والإنساني العام. استطاع عبر تجربته الشعرية أن يحول المأساة الفلسطينية إلى جماليات فنية عالية، مع احتفاظه بالبعد النضالي والثوري. كما تميز بقدرته على استلهام التراث وإعادة صياغته في سياق معاصر، مما جعل صوره الشعرية تتسم بالأصالة والمعاصرة معاً، فهي تنبض بهموم الحاضر وتستشرف المستقبل.​​​​​​​​​​​​​​​​ ولم أتخلى يوما على النحو بنحوه في التعبير بمطلق الكلمات.

اود الإشارة ايضاً إلى ان لبعض العلاقات الإنسانية تاثير كبير وهي فرصة لأشكر عديد الأسماء التي تعاملت معي بنصح ونضج بمشوار تكويني النقدي وهم الأساتذة والهايجن باسم القاسم وسامر زكريا وديمتري دافينيوس وسامح درويش ومعاشو قرور وعلي القيسي وخاصة الصديق المعماري والمترجم والناقد أسامة اسعد الذي مكنني من تصحيح عديد المسائل والتنظيرات في مجال الهايكو عبر حوارات سخية هاتفية طويلة وبيداغوجية. أتمنى لهم جميعا، كل الخير والهناء وأملي في ان ينشر قريبا شيئا من معرفته بماهية الهايكو فهو حقا مرجع ناطق.

س. وما حاجة سعداوي لكتابة الهايكو؟

أكتب الهايكو لأنه يمنحني فرصة للتعبير عن لحظة، عن صورة عابرة، بشكل مكثف ومختصر. في عصرٍ طغى فيه الاستعجال وتقلص فيه التأمل، أجد أن الهايكو يتيح للمتلقي لحظة صافية للتوقف وإعادة التفكير. إنه شكل من أشكال التأمل الشعري، ولعله يتيح لي العثور على جماليات خفية في تفاصيل يومية بسيطة. ما يميز الهايكو عن باقي أنواع الشعر بالنسبة بنظري فهي أبعاد ممارسته المتطلبة التي تحث على السعي إلى المعرفة وكسب فهم موضوعي للمفاهيم بغاية بناء رؤية ذاتية تمتاز بالحياء أي لا تتخفى او تتوارى خلف تصور إديولوجي وإنما تناشد المشاعر الإنسانية والطبيعة بين هشاشتها وجبروتها. هذا يتطلب جهد التموين الذاتي عبر الاطلاع على ادبيات الهايكو باستمرار.

س. رؤية الفيلسوف والناقد الفرنسي رولان بارث الإيجابية للهايكو ماذا تعني بالنسبة لك؟

رؤية رولان بارث للهايكو تمثل لي نقطة تحول في فهم الشعر وجوهر اللحظة الشعرية. فعندما يصف بارث الهايكو كومضة فوتوغرافية بدون شريط حافظ للصور، فإنه يكشف عن عبقرية فريدة في فهم طبيعة هذا الفن الياباني العريق.

ما يثيرني حقاً في تحليل بارث هو قدرته على التقاط الجوهر الحقيقي للهايكو. إنه فن التأطير المؤقت للحظة، تماماً مثل الصياد الذي يمسك السمكة للحظة ثم يطلقها. فالقيمة لا تكمن في الاحتفاظ باللحظة، بل في فعل الالتقاط نفسه.

وهنا أود أن أستحضر مقولة أخرى مهمة لبارث حين يقول: “الهايكو يقول ما يقول، ولا يقول شيئاً آخر. إنه يرفض أن يكون رمزاً أو استعار”. هذه المقولة تكشف عن عمق فهمه للهايكو كشكل شعري يرفض الزخرفة والتعقيد. إنه يحتفي بالبساطة الراديكالية للهايكو، حيث المعنى لا يختبئ وراء طبقات من المجاز، بل يتجلى في عري اللحظة ذاتها عبر رسم إيحائي بسيط على منهج تشيكي.

كما يقول بارث في موضع آخر: “الهايكو يجعلنا نرى ما لم نكن نراه من قبل، لا لأنه يكشف شيئاً مخفياً، بل لأنه يعلمنا فن النظر إلى ما هو ظاهر امامنا”. هذه النظرة تقلب مفهومنا التقليدي عن الشعر رأساً على عقب. فبدلاً من البحث عن المعاني العميقة والدلالات الخفية، يدعونا بارث إلى ممارسة فن الرؤية المباشرة، إلى تعلم كيف نرى العالم كما هو، وننعم بصفائه وبساطته.

أجد أن وصفه للهايكو كـ”طيّة تقع في حرير اللغة” هو في حد ذاته هايكو نقدي رائع. إنه يلخص كيف أن الهايكو يخلق انقطاعاً جماليًا في نسيج الواقع اليومي، لكنه ومضة بطيئة خفيفة كطية في الحرير.

طبعا كممارس للنقد لا يمكن ان يكتفي صندوق أدواتي بنهج بإرث وإنما هو واحد من عدة مداخل لفهم، شرح، تفكيك ونقد خاصة ما أعاصره من نصوص وأطروحات. المنهج البارثي يقدم فهماً عميقاً للهايكو كممارسة جمالية تتجاوز مجرد التعبير عن المشاعر إلى خلق لحظة من الوعي المكثف بالوجود. إنه يعيد تعريف الشعر، لا كأداة للتعبير العاطفي، بل كممارسة في اليقظة والحضور. وبهذا المعنى، يمكن القول إن بارث لم يقدم فقط قراءة للهايكو، بل قدم رؤية جديدة للعلاقة بين اللغة والواقع، بين الشعر والحياة.”​​​​​​​​​​​​​​​​

س. هل للهايكو العربي شطحات أو أوهام خاصة به؟

نعم، ليس للهايكو العربي شطحات ههه بل لاهله ومتعاطيه. ففعلا يتعامل المثقف العربي غير المتخصص مع الهايكو بمجموعة من الأوهام تحضير وتغيب حسب الخلفيات الثقافية وأبرزها:

  • وهم الإيجاز والتكثيف: يرى السعداوي أن إيجاز الهايكو ليس شكلياً فقط، بل هو شعر الحدث المختصر الذي وجد شكله الطبيعي.
  • وهم المشهدية: يُعتقد أن الهايكو يقتصر على رسم مشهد تصويري ثابت، بينما لحظة الهايكو ديناميكية وسينمائية، تعبر عن تجربة حسية متكاملة تخاطب كل الحواس.
  • وهم المعرفة الشعرية: يظن البعض أن فهم الهايكو سهل باستخدام أدوات التحليل الشعري التقليدية، بينما يتطلب فهماً عميقاً للثقافة والفلسفة اليابانية.
  • وهم الاكتفاء بالشكل: يعتقد بعض المثقفين أن توزيع الكلمات على ثلاثة أسطر يكفي لإنتاج هايكو دون الاهتمام بجوهره البلاغي وغرضه المشاعري.
  • وهم الدهشة: يرى البعض أن الهايكو يجب أن يكون مدهشاً بلاغياً، بينما طبيعته تكمن في بساطته وعفويته.
  • وهم الصياغة: يعتبر البعض الهايكو نصاً مكتوباً فقط، بينما هو في الأصل شعراً منطوقاً يخاطب جميع الحواس.
  • وهم التدوين: يعتقد البعض أن وظيفة الهايكو هي التدوين، بينما هو شعر اللحظة الذي ينقل تجربة مشاعرية أعمق.
  • وهم خصائص السنريو (الهايكو الاجتماعي): يظن البعض أن السنريو يختلف عن الهايكو كلياً، بينما يتجاوز الأخير تدوين اللحظة إلى التعبير عن هشاشة العالم والإنسانية.
  • وهم الإقناع: يُعتقد أن الهايكو يجب أن يكون مقنعاً بلاغياً، بينما يعتمد على الغياب الشرطي لكل أشكال المجاز والبيان.
  • وهم الغرض: يرى البعض أن الهايكو يجب أن يتماشى مع أغراض الشعر التقليدية، بينما هدفه الأساسي هو نقل مشاعر إنسانية هشّة وعابرة.

الهايكو يتطلب منا تجاوز هذه الأوهام والاعتراف بطبيعته الخاصة كشعر للحظة، يركز على الهشاشة والزوال، ويمتزج بعمق مع التجربة الإنسانية والطبيعة. إن القدرة على استيعاب هذه الرؤية الجمالية الجديدة، هي ما سيمكن المثقف العربي من الاستفادة الكاملة من هذا النمط الأدبي الرائع واعتباره منحة بلاغية تستحق الاهتمام والتطوير عربيا

أرى في كلام بارث دعوة إلى تذوق اللحظة وتقديرها دون محاولة شرحها أو توضيحها. فالهايكو، كما يصفه بارث، يفتح نافذة للصمت ولحضور الصورة المجردة، حيث تترك الكلمات مساحة للقارئ كي يشارك في بناء المعنى. هذه الفكرة تتماشى مع رؤيتي للهايكو كفنّ يحتفي بالتعبير الصادق وغير المتكلّف.

س. ما هي أبرز النقاط التي تود أن يعرفها القارئ العربي عن الهايكو الياباني وتطوره؟

أود أن يعرف القارئ العربي أن الهايكو يحتل مكانة فريدة في النسيج الثقافي الياباني المعاصر، فهو ليس مجرد شكل شعري، بل يمثل عنصراً حيوياً في الهوية الوطنية. يبدأ اليابانيون بتعلم هذا الفن الأدبي منذ المراحل الدراسية المبكرة، حيث يشكل جزءاً أساسياً من المنهج التعليمي.

وفي المجتمع، تنتشر نوادي الهايكو المعروفة باسم “كوكاي” في مختلف المدن اليابانية، حيث يلتقي الشعراء والهواة لتبادل تجاربهم الإبداعية. كما تخصص الصحف والمجلات اليابانية مساحات منتظمة لنشر قصائد الهايكو، مع وجود مجلات متخصصة مثل “هوتوتوغيسو” التي تحظى بمتابعة واسعة.

ومع دخول العصر الرقمي، انتقل الهايكو إلى الفضاء الإلكتروني عبر المنتديات والتطبيقات، مع الحفاظ على طابعه التقليدي المميز. وتقام سنوياً مسابقات ومهرجانات وطنية تحتفي بهذا الفن، مما يجعله جسراً يربط بين الماضي العريق والحاضر المعاصر في الثقافة اليابانية.​​​​​​​​​​​​​​​​

ثانيا اود ان ينقش المثقف العربي على مرمر ذاكرته بانه لا يشترط الهايكو البوذية وفلسفة الزن والساتورية Satori كحالة تنوير مفاجئ تشير إلىتجربة الاستيقاظ يالمفهوم الروحي.

لرسم ابتسامة عند القارئ اسرد الحقيقة التالية: بالرغم من بحثي الجاد لسنوات، لم أجد سطرا واحدا يرجِع لمدارس التأمل بالشرق الأدنى يخوض ولو سطحيا بتصوره للغة وفروعها أو الشعر وقواعده، كأنّ وعي كهنته الأولين لم يكن معرفي كما هو الحال عند شيوخ التصوف عندنا الذين ساهموا وخاصة منهم عبد الجبار النفري صاحب القول الشهير”كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة” (كتاب المواقف والمخاطبات) في وضع أسس الحداثة في الأدب. فبعد قرون من وفاته، أضحت مكاشفاته في كتابه “المواقف والمخاطبات” مدخلاً من مداخل الحداثة الشعرية، اعتماداً على عبارته الشهيرة “كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة” وهو الذي يعتبره أدونيس “السلف الشرعي لقصيدة النثر العربية!

كل ما في الأمر ان بليث – الذي يرجع له فضل أولى الترجمات ـ سامحه الله، لم يفهم ان المثقف لعصور كاملة بالمجتمع الياباني هو الراهب البوذي وأنهالمتملِّك الوحيد بمجتمعه من اللغة وكتابتها مما أدى إلى أن الكهنة هم اول شريحة مارست الشعر وطورته… إلى شكل الهوكو الذي جعله تشيكي في مابعد هايكو.

ثالثا، ان الإجازة الذاتية أي التكوين الذاتي المستمر بمجال الهايكو لا تقود فقط إلى التخصص كما بباقي المجالات لما تحمله من معارف وجودة تفكيروفلسفة حياة وسوي السلوك، بل تحمل نشوة لا تضاهيها اية نشوة معرفية وأدبية.

س. الهايكو الناطق باللغة العربية بين القبول والرفض، كيف تعلل هذه الإشكالية؟

أعتقد أن جزءاً من هذا التباين يعود إلى عدم تعوّد القارئ العربي على هذا النوع من الشعر الذي يبتعد عن المجاز المكثف والتعبيرات الوجدانية التي يتميّز بها الشعر العربي التقليدي. لذلك، يجد البعض صعوبة في تقبّل الهايكو كنوعٍ شعري، ويرونه مقتصراً على الوصف السطحي. بينما أرى أن هذا النمط يحمل إمكانيات تعبيرية عميقة، إذا فهمناه وأعدنا تكييفه بما يناسب الثقافة العربية. هو منحة وليس محنة كما يرى ويروّج فريق منا نصب نفسه حراس بوابة الذائقة ببيت الشعر العربي. ولن يزدهر الهايكو إلا بأيادي امينة فهو عصي على من لا حياء (معرفي ووجداني) له.

س. أشرت في إحدى الندوات إلى ضرورة أن يتحلى شاعر الهايكو (الهايكست) بالحياء المعرفي، ما مقصدك؟

الحياء المعرفي هو اولاً مصطلح ابستيمولوجي: epistemic humility، وهو يختلف عن مفهوم الحياء القاموسي كـ”انقباض النَّفس مِن شيءٍ وتركه حذرًا عن اللَّوم فيه”. هو ليس مجرد تواضع أو اتزان. إنه تحليل نقدي للقدرة على المعرفة، وتقبل للمحدوديات والأخطاء المحتملة في أي عملية معرفية.

الحياء المعرفي يمكن الهايجن المتطلع التثاقف مع حضارات أخرى أن يتجنّب التخندق بحدود ذائقته وبلاغته الموروثة والسعي إلى الظهور بمظهر العارف بكل شيء. وحين يُصبغ فكر ومنهج البحث الالهامي الهايجن بالحياء المعرفي يقبل بدور بلاغة التغفل وينتج قصائد تترك مجالاً للقارئ ليشارك في بناء الصورة والمعنى. الهايكو لا يحتمل الادعاء أو المبالغة، بل يعتمد على الصدق البسيط، والتعبير عن اللحظة دون تكلّف أو استعراض.

س. نجد أغلب ما يكتب تحت عنوان الهايكو هو في الحقيقة “سينريو”، ما هي الحدود الفاصلة بين الاثنين؟

الهايكو يهتم أكثر بالطبيعة واللحظات العابرة بشكل تأملي، في حين أن السينريو يركّز على الجوانب الإنسانية والاجتماعية، غالباً بنبرة فكاهية أو ناقدة. أرى أن على الشاعر العربي أن يكون مدركاً لهذه الفروقات، كي لا يخلط بين النوعين، ولكي يقدّم نصوصاً تلتزم بروح كل منهما.

س. ما هي أبرز مواصفات الهايكو المتكامل برأيك؟ ألا يتعارض ذلك. أقصد الهايكو المتكامل. مع المقولة اليابانية بأن الجمال في عدم الكمال؟

الهايكو المتكامل، من وجهة نظري، هو الذي ينقل لحظة مؤثرة ويحتوي على عمق فلسفي، دون أن يكون معقّداً أو مترفاً بالكلمات. أما الكمال، فأنا اعتبره جمالياً في توفر بساطة التعبير وصدق اللحظة المشاعرية بعملية الرسم الإيحائي الذي يعتمد الإغفال كتقنيّة وفلسفة تواصل وليس في الاتقان التقني البارد البحث عن الدهشة وممارسة التدوين لغاية التدوين. كذلك جمال الهايكو يكمن في عفويته، طبيعته وبلاغته الإغفالية التي تتعاطى مع الفراغ والصمت كاشكال تعبير وأدوات كتابة. الهايكو تجسيد قوي لجمال إلا اكتمال!

تعكس فكرة الجمال في عدم الكمال مبدأ انّ الجمال يكون في إظهار الواقع بصدق: لا شيئ مكتمل بالحياة! المقولة اعتراف بدور اللايقين والفراغ في التجربة الإنسانية حيث “الصمت” و “الفراغ” مولدات احاسيس بالعمق والغموض وجسور للتأمل والوعي. هي أدوات لخلق التناظر لدى القارئ بشكل إدراكٌ أعمق و أكثر ثراءً!

يجب الاعتراف بانه خارج منظومة المعرفة الهايكوية، ان الفكرة القائلة بأن الجمال يكمن في عدم الكمال، وأن النص الكامل جمالياً هو الذي يستحضر الإغفال والصمت والفراغ، فكرة معقدة ومثيرة للجدل. فحقا بباقي الأنماط ليست كل النصوص الجميلة هي التي تستحضر الصمت و “عدم الكمال”. بميراثنا درر وجواهر كاملة وواضحة المعالم تتمتع بالجمال بأسلوب مختلف.

س. كيف ترى مستقبل الهايكو العربي؟

أعتقد أن مستقبل الهايكو العربي واعد، لكنه يحتاج إلى توجيه ودعم لنضوج تجاربه. علينا بناء آليات ومعايير تحافظ على أصالة الهايكو وتتيح له أن يتطوّر في بيئة عربية، دون أن نخضعه للمقاييس الشعرية التقليدية، بل نسمح له بالاستفادة من ثراء لغتنا وتعبيراتها الخاصة. كذلك يجب ان نكثف من التجارب المشتركة مالملتقيات والندوات والدراسات.

س. مشاريعك المستقبلية في مجال الكتابة الإبداعية؟

أعمل على إصدار “معجم الهايكو العربي”، وهو مشروع أطمح من خلاله إلى توفير مرجع شامل لممارسي الهايكو، يجمع بين البعد الفني والتحليلي، ويسعى إلى تثبيت معايير تواكب اللغة العربية وثقافتها. كما استغل حاليا على تحرير “مانيفستو” لجمالية الهايكو العربي، يُرسي مفاهيم مشتركة وقواعد تساعد الكتاب على إنتاج نصوص تحمل روح الهايكو دون مغالاة أو تنازل عن الخصوصية الثقافية العربية.


الشاعر والناقد التونسي نسيم سعداوي

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.