اللوحة: الفنان الأميركي جان باسكيات
هذه المنطقة التي تسمى مصر، والتي هي من أقدم الحضارات، والتي سادت الدنيا قرونا طويلة، يسكنها شعب يصعب سبر أغواره، يحمل بذوراً من كل المتناقضات، الخير والشر وما بينهما، شعب يحيا في وسط العالم ويأتيه الناس من كل مكان، فيجدد بهم دماءه، ولا يملك من يدخل مصر ويسكنها إلا أن يعطيها من مواهبه الأولى ثم سرعان ما يذوب فيها ويصبح مصريا أصيلا.
نُشر في العام الماضي خبر عن حادث في مبنى جريدة كبرى بالقاهرة، قام موظف بإلقاء نفسه من النافذة، ونشرت التحقيقات أنَّ سبب انتحاره أزمة بينه وبين رئيسه في العمل، وحين تخيلت هذا الموظف ومعه عشرات الزملاء وهم يتابعون ما يجري من صراع متكرر بين المنتحر ورؤسائه، سألت نفسي: إنَ من يصل لهذا القرار اليائس لا بد أنَّه شعر بالتخلي والوحدة وسط زملائه، فهل من الطبيعي أنُ يُظْلم شخص وسط عشرات الزملاء ولا يجد من يقف بجانبه أو يتعاطف معه، لماذا حين يُبتلى المصري بإهانة أو ظلم يتلقاهما وسط صمت الآخرين حوله!، رغم أن هذا الظلم غير بعيد عنهم وربما يطولهم فرادى أو جماعات فيما بعد؟
لماذا حين ييأس العربي يُعاقِب نفسه ويُدمرها، ويترك الظالم يبحث عن ضحية أخرى يَقهرها، لماذا يشتهر من يقتل أولاده وزوجته ثم ينتحر بسبب ظلم أو فقر؟ ومن يَحرق نفسه حين يهان؟ ولا يعاقب المظلوم ظالمه قبل أن يفعل بنفسه أفعال اليأس؟
***
في مقال للإمام «محمد عبده»، بمناسبة ذكرى تنصيب رائد الأسرة العلوية «محمد على» حاكما لمصر، طرح سؤالا ثم أجاب عليه: «الشعب المصري في مقاومته للحملة الفرنسية، عام 1798، لم يدع الجنود الفرنسيين يهنأوا يوما واحد، عاشت فرنسا في جحيم مقاومة مستمرة في كل مصر، حتى رحل الاحتلال، في حين أنه نفس الشعب الذي هُزم بسهولة عام 1882، حين هُزم عرابي وجنوده وأحتل الإنجليز مصر، وبعد الهزيمة دانت البلاد للإنجليز وهدأت مقاومة الشعب للاحتلال وتقبله إلى أن قامت ثورة 1919، كيف يُفهم هذا التناقض؟»
يجيب «محمد عبده» على التساؤل: «أعترف أن (محمد على) هو باني الدولة المصرية الحديثة، ولكن الثمن كان خنوع الشعب وفقده لقدرته وثقته بنفسه، فبنى دولة وهدم المواطن».
***
في مذكرات نوبار باشا، يحكي أنَّ «محمد علي» فرض ضريبة «الفِردة»، وهي ضريبة على الأفراد من الرجال والنساء والأطفال، وكانت الأساليب التي تستخدم في تحصيل هذه الضرائب مروعة، وانفجرت في كل مكان الشكاوى والاحتجاجات، ومع ذلك لم تلغَ هذه الضريبة نظرا للحاجة الشديدة إلى المال للإنفاق علي حرب من حروبه، وكات ضروريا اتخاذ إجراءات لتهدئة سخط الناس، ذهب «إبراهيم باشا» ابن «محمد علي» إلى المنصورة ومعه وزير المالية «المعلم غالي أبو طاقية» وجلس أمام المشايخ في شكل جمعية عمومية، هم يتحدثون ويشكون من كثرة الضرائب وفداحة تقديرها والقسوة في تحصيلها، وبعد أن استمع إليهم قال بصوت عال: «إن الخطأ ليس خطأ أبى.. إنهم يخفون عنه الحقيقة.. إن صاحب فكرة فرض هذه الضريبة.. هو الخائن الذى ترونه هنا جالسا بجانبي» وأشار بإصبعه إلى (المعلم غالي وزير المالية) ثم أخرج المسدس من جيبه وصوبه تجاه المعلم غالي، وأفرغ الرصاصات في صدره وأرداه قتيلاً في لحظات أمام جموع الحاضرين، الذين أصابهم الذهول والذعر، وانسحب الشيوخ خارجين فارين من الاجتماع، وهكذا تم إقرار العدالة وترضية الجميع بطريقة إبراهيم باشا، واعتقد الناس أن الضريبة ستلغى ولكن ظلت قائمة بفضل هذا المشهد الإرهابي، وظلت «الفِردة» كما هي حتى ألغاها «عباس حلمي الأول»، وظل الناس يستخدمون مصطلح «الفِردة» إلى يومنا هذا كناية عن البلطجة في تحصيل النقود.
هذا المشهد المسرحي الذي حضره نخبة المصريين، لو خرجوا ليحكوا للناس هذا المشهد بحقيقته كاستمرار للظلم، لما انطفأ الاحتجاج بين المصريين، ولكن الذي حدث، أنَّ النخبة أصابها الرعب فنقلت الحكاية للمصريين مصبوغة برعبهم، وطالما المشايخ والكبراء مرعوبين، فلا مفر من أن يموت الفلاح المصري في جِلده.
ولكن، هناك ملاحظة هامة لا بد من الالتفات إليها، وهي أن مثل هذه المشاهد والحكايات حدث مثلها وأكبر، أيام الحملة الفرنسية ولم يصاب المصريون بالرعب، بل زاد اصرارهم على مقاومة الفرنسيين، وهذا يعني أن عامل الدين كان السر، فحين يكون الظالم مسلم، تؤثر في المصريين الدعايات والقصص التي تكرس الخوف والرعب وطاعة الحاكم، وحين يكون الظالم بالنسبة للمصريين كافرا أو مستعمرا غريبا، يملك المصريون اليقظة والوعي والإيمان، والدليل على ذلك أن العثمانيين حكموا مصر عن بعد لقرون طويلة بكلمة واحدة وهي «الخلافة».
***
حين نجح «محمد علي» في التخلص من عمر مكرم ثم المماليك، أصبح الشعب المصري القوة المتبقية التي لا بد أن تمتلئ بالرعب وتُقهر ثم تخضع له، وخاصة أنها كانت حرة وحيَّة في مواجهة الفرنسيين، فجاء دور «محمد الدفتردار»، الذي وردت عنه هذه القصة النادرة في تاريخ الدنيا، في كتاب «جمال بدوي» – «صفحات من تاريخ مصر»:
كان «محمد الدفتردار» وحشا كاسرا، يحمل بين جنبيه قلبا صخريا، لا تعرف الرحمة أو الشفقة سبيلا إليه، عاشقا للدماء، يطرب لمشهد الرؤوس وهي تطير في الهواء، تزوج «نازلي – ابنة محمد علي» واصبح واحدا من أعضاء الأسرة الملكية، كان يطوف على بعض القرى وتقدم منه فلاح بائس قال له: «لقد تأخرت عن سداد الضريبة وقدرها ستون قرشا ولكن ناظر الأرض أبى إلا الدفع، فاستولى على بقرتي الوحيدة وأمر جزار القرية بذبحها ثم قسمها ستين جزءا، وأمر بتوزيعها على الفلاحين بواقع قرش واحد للجزء، وأعطى الجزار رأس البقرة لقاء عمله، وبعد أن جمع المبلغ مضى وتركني دون أن أتذوق حتى قطعة من لحم البقرة التي اعتمد عليها في زراعتي والتي كانت تساوي ضعف هذا المبلغ.
أمر «محمد الدفتردار» أن ينادي بحشد أهل القرية في الجُرن، والتف الفلاحون في شبه حلقة، وبعث للجزار والناظر وأمر الجند بتكبيل الناظر وسط الحلقة، وسأل الجزار: «كيف سمح لك ضميرك بذبح بقرة الفلاح المسكين وهي كل ما يملك من حطام الدنيا»، فارتعد الجزار وقال: «إني يا مولاي عبد المأمور ولم أفعل سوى ما أمرني به الناظر»، فسكت قليلا ثم قال للجزار: «لو أمرتك أن تذبح الناظر مثلما ذبحت البقرة، فهل تفعل؟»، فقال: «أنا عبد المأمور»، فأمره بذبحه، فأخرج الجزار السكين من جيبه مسرعا، وانقض على رقبة الناظر فحزَّها حتى فصل الرأس عن الجسد، فأمره «محمد الدفتردار» أنْ يقطعها ستين قطعة عدا الرأس، والتفت إلى الأهالي صارخا: «على كل منكم أنْ يشتري قطعة بقرشين»، فأطاعوه، وأعطى الرأس أجرة للجزار، ثم أعطى القَرَوي 120 قرشا ليشتري بقرة جديدة، ثم انطلق وهو يضحك ومعه جنوده، وبقي الناس ذاهلون.
***
في هذه القصة، أشترى الناس لحم البقرة بإرادتهم رغم أنها ذبحت ظلما لجارهم القروي، والتصرف الصحيح أن يمنعوه من ذبح البقرة أو يمتنعوا عن شرائها، ولكنهم فعلوا ما فعلوه سواء عن رغبة أو رهبة، ثم تلا ذلك إجبارهم على مشهد فظيع، ذبح بني آدم وتقطيعه ثم شراء لحمه مقطعا، وفعلوا هذا تحت تأثير الرعب من هذا الحاكم الظالم وجنده.
هذه الحوادث متكررة في عصر «محمد علي»، وسبقها حوادث أخرى عبر قرون خلال حكم المماليك والعثمانيين، وكان الفلاح يُجلد أمام زوجته وأبنائه، ولهذا فالأثر النفسي للقهر والذل على الشعوب يتراكم في الأجيال المتتالية، حتى أننا لن نكون مخطئين لو ربطنا بين حادث سلبية الفلاحين أمام ظلم الناظر والحاكم، وبين سلبية الموظفين زملاء الصحفي الذي انتحر بإلقاء نفسه من نافذة مبنى الجريدة الشهيرة، رغم أن الفرق بين الحادثين قرنان من الزمان، فالأخلاق والمشاعر والقيم تتوارث طالما لم يحدث ما يغيرها.
***
في برنامج «شاهد على العصر»، صرَّح «مهاتير محمد» أنه رغم إرساله أعداداً كثيرة من شباب ماليزيا «الملاو» إلى اليابان للتدرب على أخلاقيات العمل، «التي تقدس العمل وتكره الكسل»، إلا أنه حتى اليوم مازال يشكو من كسل الفرد الماليزي مقارنة بالياباني والصيني، وذكر أنَّ انتشار أخلاق العمل بينهم تسير ببطء شديد، ورغم أن ماليزيا أصبحت بلد متقدم، إلا أنَّ هذه الشكوى طبيعية، لأن الفرد الماليزي ظل كسلان ومرتبط بالأرض قرونا طويلة، فالأخلاق التي مارستها الشعوب قرونا تظل متشربة لطباعهم، ولكي تتغير هذه الأخلاق لابد من نشر نقيضها سنينا طويلة حتى تتجذر وتصبح طبيعة وقيمة عامة.

مؤلم حدّ البكاء
إعجابإعجاب