اللوحة: الفنان الروسي نيكولاي كاساتكين

لم أكن بحاجة لقراءة المشهد، إذ أن رائحة الدخان المتزايدة، المتسللة عبر النوافذ، كانت تعبّق الجو، تخبر أن الأمر جلل، لذلك لم أضيّع الوقت وانطلقت عدوًا إلى بيت “الصوّاف”، ذلك الشيخ أتم عقده السابع على خير منذ أيام.. 

كنت أناديه بأعلى صوتي وأنا في الطريق إليه، لعله يستيقظ من نومه، أو لعلني ألفت نظر الجيران والمارة لخطورة ما يحدث فيسبقونني إليه. إذ خشيت عليه وأعلم أن من في عمره تتكالب عليه المكاره، تترصده النوائب.

لذلك حمدت الله وأثنيت على المولى ما وسعتني قدرتي على الشكر حينما لمحت الرجل يقف في بهو المنزل، بطوله الفارع، عوده المستقيم كرمح من الصلب، أمامه ترتفع ألسنة اللهب من أتون من فخار، يطعم النار المتأججة بيده، يلقي إليها بلفافات من ورق..

 حيّيته، قلت: لك منّي السلام، كل سلام هو لك وحدك، لقد قلقت عليك، رائحة الدخان أزكمت أنفي، هل أسألك يا “صوّاف” عمّا تفعل؟

ردّ السلام، قال وهو عنّي بعيد بكلّه: قضيت الساعات العشر الأخيرة من يومي، في حرق رسائل لا حصر لها، مزّقت صورًا كثيرة أغلبها لم يره أحد من قبل. جميعها حبيسة صدري.

قلت: لمن؟

أجاب وهو يبتسم: لم أخبر أحدًا عنها من قبل وهي تنبض بحياة، فهل أنبئك خبرها وهي تحترق في نار تلظّى الآن!

قلت: لم أقصد التطفل على خصوصيتك، لكن أردت مشاركتك تلك اللحظة الأليمة، فالمرء بإخوانه كما يُقال.

قال: إنما الأريب من يضع نقطة الختام قبل نهاية السطر، أو ينزع الصفحة كلها من الكراس، يخط بقلمه نصّا جديدًا وعلى صفحة بيضاء.

أجبته وأنا أرقبه من مقام الحيرة: يتوارى عقلي أمام حكمتك، لا أستطيع الوقوف بدقة على ما وراء حديثك؟

ردّ: إنما العاقل من يشم رائحة العاصفة قبل أن تهبَّ بوقت يسمح له بالفرار.

قلت: كأنك ترغب أن أغادر؟

قال: إنما تشغلني عن مهمتي، الوقت يمضي، الفجر يقترب، الرسائل كثيرة، الصور أطنان فوق بعضها، تكاد تقترب من السقف ارتفاعًا.

-هل تقبل أن أساعدك؟ ثم مددت له يدي على آخرها.

-لا، هو جهد فردي لا ينبغي لأحد أن يفعله غيري، كما أن النار تطهّر العقل، الدخان الكثيف علاج وجلاء للبصر… ثم صحبني برفق إلى باب الخروج، لم ينس أن يعتذر بشدة أن لم يقدّم لي واجب ضيافة.

• قصة