العقل العربي

العقل العربي

اللوحة: الفنان العراقي فؤاد حمدي

ماهر باكير دلاش

إذا أردت أن تبحث عن “العقل العربي”، فأنت في رحلة مستمرة بين المتاهات، تتأرجح بين حائطٍ وآخر، وكأنك تلعب لعبة شد الحبل مع شيء لا تراه، لكنه موجود في كل مكان. العقل العربي، هذا الكائن العجيب، هو الذي يخلط بين الشعر والفلسفة والسياسة دون أن يُعطيك فرصة للتنفس. وكأن في دمائه خيوط من تاريخ طويل من الفكر والمشاعر والمعتقدات، تجعله يختلط بين الفهم السليم والمزاج المتغير.

العقل العربي ليس بمسألة بسيطة. لا يمكن أن تضعه في مربع واحد، ولا حتى في عشر مربعات، لأنه يعيش في حالة من الفوضى المُنظمة. في أوقاتٍ، تراه ينبض بالحكمة، يُطلق حكمته القديمة كالشعارات: “من لا يسير في طريق الجمل لا يعرف شرف الجمل”، أو “الأشياء التي تذهب لا تعود”. وأحياناً أخرى، تجده في أوج سخريته من الواقع، يطرح الأسئلة عن الكون والحياة والمصير، وفي الوقت نفسه، يفضل أن يُجيب عنها في حيز صغير يسمى “فنجان قهوة” أو ينثره في “دخان نرجيلة”.

الطريقة التي يتعامل بها العقل العربي مع المعرفة تُعد من أمتع الأشياء التي يمكن أن تراقبها في حياتك. لا تظن أنه يرفض الفكر أو المنطق، لكنه ببساطة يراهن دائماً على “الفكرة التي تأتي بعد الفكرة”. هو ذلك العقل الذي يسأل عن سبب وجوده في هذا العالم، ثم يذهب مباشرة للحديث عن “العدالة الاجتماعية” وأثرها على بناء المجتمع، لكن في اللحظة نفسها، يتعثر في قصة عن حفل زفاف جاره الذي استمر لأربعة أيام، ويظل يسرد تفاصيل المأكولات وحركات الدبكة.

هل تعلم، في العقل العربي، لا توجد حقيقة ثابتة. الحقيقة ليست إلا رحلة مستمرة في بحثٍ لا ينتهي. عندما يناقش شخصٌ موضوعاً علمياً، تجده يقفز فجأة إلى موضوع “الكرامة العربية” دون أن يعرف كيف وصل إلى هناك. ومن ثم، إذا واجهته بتساؤل منطقي، سيكتفي بالابتسامة المبطنة، ويقول: “ربما!” وكأن كل شيء في النهاية يتساوى مع الحيرة.

ولكن، لا يمكنك أن تكره هذا العقل. بل على العكس، هو ينبض بشغف الحياة والفكر، حتى وإن بدا أحياناً بعيداً عن “المنطق” كما نعرفه. هناك في كل زاوية من زوايا التفكير العربي شيءٌ عميق من الجمال، غير منظور، لكنه محسوس. فالعقل العربي يتنقل بين الحكايات والتاريخ والمستقبل كما لو كان رقصاً على إيقاع غريب. هو عقلٌ يفكر داخل الصندوق وفي الوقت ذاته خارج الصندوق، ليكتشف أفقاً جديداً في كل مرة يعتقد أنه اكتشف نفسه.

في النهاية، إذا كنت تبحث عن عقل عربي يتبع التنظيم والمنطق الصارم، عليك أن تعيد التفكير. لأن العقل العربي ليس لديه وقت للتنظيم والتسلسل. هو يفضل أن يكون فوضوياً، لكنه يجد في تلك الفوضى نوعاً من التوازن الخاص به، ويستمر في طرح الأسئلة التي لا أجوبة لها، ويبتسم بابتسامةٍ تُبقيك في حالة من الحيرة المستمرة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.