اللوحة: الفنان المصري وليد عبيد
صبحي السلماني

حتى ينهض، لم يكن بحاجة إلى القذف والتقريع من أحدهم، ولا إلى ركلةٍ من طرف قدم لا ترحم.
حين تبدأ جحافل الصراصير بالتراجع إلى مخابئها، وتغور الجرذان في أنابيب الصرف الصحي، ويتلاشى نميمها، تكون الرسالة قد وصلت: هيا، حان وقت العمل، الصبح قد أقبل والليل قد أدبر.
يستوي على الصفيحة المعدنية الكائنة خلف الطاولة الخشبية ذات الدرج الواحد وثلاث سيقان.
حين يكون في هذا الوضع من الجلوس يصبح كل شيء تحت السيطرة، المغاسل في الجهة المقابلة لمرمى نظره، وإلى يمينه غرف المراحيض، والباب الخارجي إلى يساره، والزبون بعد أن يقضي حاجته وينتهي من غسل يديه ليس باستطاعته ان يذهب هنا أو هناك دون أن يدفع الحساب، لأن الإدارة، والتي هي جزء من الممر الطويل الذي يصل إلى الباب الخارجي تكون في طريقه.
وهذا الـ (حمدان) رغم جهله بعلم الإدارة لكونه لم يتتلمذ على يد أساطينها، يعرف بأن ليست هناك مسؤولية مجردة من الصلاحيات، وهو يستخدم صلاحياته، مزق التسعيرة القديمة واستبدل بها أخرى غيرها:
هل يعقل أن يدفع الشخص الذي يكتفي بغسل يديه المبلغ نفسه الذي يدفعه شخص آخر، وهو يتبول أو يتغوط؟! وهل يعقل أن نساوي بين المتبولين والمتغوطين؟
لا… هذا ليس عدلاً.
ولكي يضع حدًا للمراوغة أو الاحتيال، أفرد الغرف كلًّا حسب وظيفتها.
وباعتباره الشخص الوحيد المسموح له بالمبيت في الداخل، ما أن ينقطع سيل الزبائن حتى يبدأ بتنظيف الأرضية من أعقاب السجائر والمناديل الورقية المستخدمة، وما علق بها من بصاق وأطيان، وتطهير الجدران وإزالة كل ما من شأنه أن يستفز رجال الصحة في جولاتهم المسائية.
صحيح أن العمل في دورات المياه حتى بالنسبة له عمل مزعج ويبعث إلى القرف، لكن الذي يزعجه أكثر ويجعله يشعر بالغثيان – فضلًا عن بعض المتغوطين الذين لا يعرفون كيف وأين يضعون برازهم…- الصراصير التي تبرز من شقوق الأرض وفوهات المجاري لتتقاسم الشطر الأخير من الليل مع الجرذان.
وهذا الـ (حمدان) لم يكن أبوه جرذًا، ولم تكن أمه صرصورة، والجدة حين قطعت حبله السري لم تدفع به إلى دورة مياه، ولم تلصقه بمؤخرة عاهرة، لكنه العوز… العوز الذي كان نتاجًا للبطالة والحروب التي لا يكاد يخبو أوارها، هي التي جعلت القرى تتقيأ أبناءها وتدفع بهم إلى أتون المدن البعيدة.
بعد أن فقد أباه في واحدة من أكثر الحروب عبثية، وجد نفسه غريباً بين أرملة وثلاث بنات قاصرات، وعم متربص لم يجد أفضل من الزواج من تلك الأرملة جبراً للخواطر، بعد أن أزال الجدار الذي يفصل بين الدارين، وساوى مع الأرض الحد الفاصل بين الأرضين، وأضاف بناتهم إلى بناته، ونعاجهم إلى نعاجه، ودجاجاتهم إلى دجاجاته، والبقرة أخذت طريقها إلى الجزار، وأما عَنهُ فليذهب إلى الجحيم.
حمل نفسه غير طائعٍ إلى واحدة من المدن القريبة، والمتخمة بالبطالة حد التجشؤ، اقتفى عربة دفْعٍ أمام علوة لبيع الخضار، يقوم بإيصال المشتريات إلى السيارات المركونة على الرصيف، وبعض من الدور القريبة. أحد تلك الدور تعود لسيدة لم تزل تشهر سيف الصبا وتقارع الشيخوخة رغم تقدمها في العمر، استلطفته… توددت إِليه… ضاعفت له الأجر، وأخيراً طلبت من صاحب العلوة أن يتنازل عنه لمصلحتها، وكان لها ما أرادت.
في الأيام الأولى لم يدرك المهمة التي اُنتدبَ من أجلها، لكن مع الأيام عندما اكتشف بأن صاحبة الدار ليست وحدها، فثمة نسوة أُخريات مقيمات أو شبه مقيمات معها في الدار، وزبائن يترددون في أوقات متفاوتة لينفردوا بأولئك النسوة في غرفهن، ساورته الشكوك، وصار يحدث نفسه ويتساءل:
هل يعقل أن يكون مثل هذا البيت المحترم، بيت لل…؟
وهل يعقل تكون تلك المرأة الطيبة….؟
لا… لا….. مستحيل.
لم تستمر معه تلك الشكوك لفترة طويلة.
استقدمته صاحبة الدار إلى غرفتها، وحتى تصل إلى صلب الموضوع الذي ُأُستقدم من أجله، استهلت الحديث بديباجة رائعة عن البطالة والمستقبل، وعن الفرص وكيفية اقتناصها، ثم بلغة واضحة وصريحة طلبت منه ان يتولى مهمة استقبال الزبائن، والتفاوض معهم حول رغباتهم لأن سعر (الگاز) ليس مثل سعر (البنزين)، والزبون الدائم ليس مثل الزبون الذي يحضر لأول مرة…. كل شارب وله مقص.
ولاعتقاده بأن المفردتين اللتين لا يصلح تداولهما إلا في محطات الوقود تنطويان على معانٍ خطيرة، قبل أن يعطي قراره لم يجد ما يمنعه من أن يسأل عن سبب ورودهما في هذا المقام.. وهي تغمز بطرف عينها وتبتسم، لكزته بإصبعها على صدره: (يول حمدان لتغشم روحك كلشي تعرف)
وحين أقسم لها بأنه لا يعرف، قالت: (بعدين حمدان… بعدين راح تعرف، الزبون يعرف كلشي)، وربما لأنها كانت واثقة بأن لا سبيل أمامه إلا القبول، بشكل مقتضب أوجزت له الأسعار وطريقة التعامل مع الزبائن والحفاظ على سرية العمل.
اسودّت الدنيا في عينيه، وصار يضرب أخماساً بأسداس.. الرجوع إلى القرية له ارتدادات خطيرة قد تنسحب على أمه وأخواته.. علوة الخضر؟ لو كان لصاحبها حاجة به، ما تنازل عنه بتلك السهولة.
لم يبق أمامه إلا أن يمنح كرامته اجازة مفتوحة ويقبل على مضض.
المحترفون من الرجال يطلبون النساء بأسمائهنَّ، والهواة لا تعنيهم الأسماء مع أي تكون يقضون أوطارهم ويمضون. وأما المتغطرسون، فيطلبون صاحبة الدار بعينها: مع الوالدة… حمدان… مع الوالدة.
ولكي يجب الشبهات عن والدته، كان يجتهد في إقناع أولئك الكلاب بأن تلك المرأة ليست والدته وأن وجوده هنا مقابل أجر لا أكثر.. الذي يقتنع، يفرد السبابتين فوق رأسه: يعني (كَرن)
والذي لا يقتنع يضم الإصبع الوسطى أو السبابة في إحدى يديه الى الإبهام ليشكل ما يشبه الحلقة، ويفرد الإصبع الوسطى حصراً من اليد الأخرى ليدخله في تلك الحلقة ويخرجه: صاير شريف ابن ال…..
وفي كلتا الحالتين يحدث شجار لا ينتهي إلا بتدخل صاحبة الدار شخصياً، ولكي لا ينفر الزبون أو يهرب تسترضيه بعهرٍ فاضح: لا عليك… لا عليك، امسحها في مؤخرتي.
وأما عن النزاعات التي تحصل بين العاهرات والزبائن فهي كثيرة، والتي تحسم على الأغلب لمصلحة العاهرات، لأن الذي يحدث أن بعض الزبائن، وهم يقفزون من البنزين إلى الگاز أو العكس، يكونون قد أخلوا بشروط الاتفاق.
في أحد الصباحات لسبب أو بدون سبب كانت الدار قد خَلَت إلا منه، فاجأه حضور أحد الرجال المخمورين أبداً، والذي يحظى باهتمام خاص من لدن صاحبة الدار، وحين عرف بأن لا أحد يوجد غيره باغته من الخلف، ضمه إلى صدره وشرع بتقبيله، ورغم انه لم يزل فتى لم يلتحِ بعد، لم يجد صعوبة في الإفلات من قبضة رجل مخمور، وترك بصمات لا تنسى في وجهه.
ولأنه يعرف بأن مفهوم الشرف عند هذه المنظومة التي تحركها صاحبة الدار، والتي هو جزء منها مفهوم نسبي يمكن اختزاله أو اختراقه في أية لحظة، وحتى يفلت من طائلة العقاب، ويحافظ على ما تبقى لديه من قيم، قرر أن يهرب متخفياً إلى مدينة أخرى، لا أحد يعرفه فيها ولا يعرف هو فيها أحداً.
هناك لم يجد من يؤويه أو يهتم لشأنه، وحدها دورة المياه العامة هي التي احتضنته وسمحت له بالمبيت.
خلال فترة وجيزة استطاع أن يكسب ثقة ورضى الشخص القائم على أمرها، ويتسلم كل مقاليد الأمور.
لكن قولوا: هل انتهت المشاكل وأصبح كل شي على ما يرام؟ لا…..
بعض الزبائن، وليس جميعهم وعلى وجه الخصوص المتغوطين منهم، لا تتفجر الطاقات ولا تبرز المواهب عندهم إلا في المراحيض، فهذا يرفع عقيرته بالغناء، وذاك يكتب الحرف الأول من اسمه واسم حبيبته إن كانت له حبيبة، ومن ليس له حبيبة يختزل معاناته ببيت شعر على الجدار.
وأما أولئك الذين لا يحسنون الكتابة، ولا يجيدون الغناء، فلم يجدوا أفضل من الرسم وسيلة للتعبير عن تلك الأشياء التي تؤرقهم وتقض مضاجعهم، بكل هدوء وتروٍّ يدسون أصابعهم في البراز، ويرسمون قلوب الحب التي تخترقها الأسهم من اِتجاه وتنفذ من الاتجاه الآخر، أو يقومون برسم الأعضاء التناسلية الذكرية منها، والأُنثوية بشكل رديء ومضحك على الجدران.
تلك الكتابات والرسوم بمجملها، رغم تقاطعها مع الذوق العام، لا تسبب له ازعاجاً كبيراً؛ لأنها لا تشكل خطورة من الناحية الأمنية… بل على العكس، كان – كمراهق – يستمتع بقراءة تلك الأشعار ومشاهدة تلك الصور قبل أن يزيلها. المشكلة ليست هنا، المشكلة الحقيقية تكمن في الشعارات السياسية المعادية، التي تُكتب بالدهان على الجدران من الخارج في ساعات متأخرة من الليل، والتي بسببها تم اعتقاله بتهمة التواطؤ مع المخربين، ولخطورة تلك التهمة لم يتجرأ أحدٌ على ان يسأل عنه أو يتابع اخباره، بل على العكس، فمن لم يتنكر له صار ينعته بالمخرب أو العميل… وكيف لأحدٍ في زمن الحرب أن يسأل عن شخص أُلصقت في مؤخرته تهمة التواطؤ إلا أن يكون متواطئاً أو عميلاً مثله؟
الجميع يريد أن ينساه أو يتناساه، لكن الذين لم ينسوه بعد يقولون: بعد أن تم إطلاق سراحه ركب البحر وهاجر إلى بلاد أُخرى… بلاد ليس فيها حروب، ولا دورة مياه، ولا علوة خضر، ولا حتى بيت للعاهرات.
وإذا ما سُئِلوا عن أسم تلك البلاد وأين تكون؟ يقولون: لا أحد يعرف لها اسما لكنها موجودة في كوكب آخر غير كوكبنا.