كيف نؤرخ للصوت؟.. قراءة في جوابات «زبيدة» زمن الحملة الفرنسية (6)

كيف نؤرخ للصوت؟.. قراءة في جوابات «زبيدة» زمن الحملة الفرنسية (6)

الصورة: بيت زبيدة شيده أبوها محمد البواب الميزوني في العام 1740

تحاول هذه الدراسة تقديم مقاربة حول تاريخ الأصوات من خلال قراءة تحليلية لأربعة جوابات، تعود إلى زمن الحملة الفرنسية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر. تغطى هذه الجوابات أزمة تعرضت لها فتاة مصرية تدعى زبيدة ابنة محمد البواب، مع أهالي مدينتها رشيد؛ بسبب زواجها من أحد كبار جنرالات جيش الاحتلال. ولم يشفع لها اشتراطها وقوف الجنرال أمام ساحة القضاء الشرعي وإعلان إسلامه.

كانت زبيدة تنتمي لأعيان الطبقة الوسطى، وكان مينو بحكم منصبه والمهام العسكرية التي كان يُكلف بها، يضطر بين وقت وآخر لمغادرة رشيد، وكانت كتابة الجوابات هي وسيلة التواصل الأساسية بينهما، ومن هنا مثلت جوابات زبيدة – مينو مصدرا مهما يمكن أن يكشف الكثير مما نجهله عن قصتهما التي لطالما صيغت بأقلام المراقبين والمعاصرين لها، والذين كانوا في الغالب رافضين لها ولزواجها من مينو، ما جعلهم يرسمون لزبيدة ملامح مصطنعة ابتعدت في جزء كبير منها عن الواقع التاريخي: فهل تمكننا دراسة هذا المصدر من العثور على زبيدة من جديد، واستعادة بعض آثار صدى صوتها لتحكي بنفسها، ولتتكلم بصورة عفوية عن جانب من سرديتها، لعلها تكشف لنا جزءا من حقيقتها (الغائمة)، بما يمكن معه عمل مراجعة نقدية للصورة السائدة عنها؟ ذلك هو السؤال الإشكالي الذي نحاول معالجته في هذه الدراسة.

مينو بين صوتين: نداء زبيدة وأوامر كليبر 

إن البحث عن أثر صوت كلماتها في كامل الجوابات الاربعة، إنما يتجلى في حدث وصول الجنرال إلي بيت زبيدة، ذلك المشهد الذي كانت تنتظره زبيدة وتراهن عليه في حماية بيتها وقطع ألسنة مروجي الأكاذيب والإشاعات المغرضة التي كادت أن تنال منها ومن كرامتها.

قرر مينو بعد جوابها الرابع (بتاريخ 16 نوفمبر 1799) أن يتجه إلى رشيد، قبل أن تعصف الأزمة بعائلته المسلمة التي راهن على ما يمكن أن تحققه له، كأداة للتقارب بين الفرنسيين والمصريين في مستعمرة مصر التي يحلم باستمراريتها. وصل مينو أخيراً في كوكبة من الجنود والضباط المساعدين، وعلى مرأى من أهالي رشيد تابع الجميع المشهد وعلو صهيل الخيول المسرجة. لقد عاد الجنرال أخيراً إلى بيته، وأُخرِسَت ألسنة النميمة، وحُوصِرت عن بيت زبيدة الشائعات. 

وهكذا نلحظ أن صوتها عبر الجوابات المُملاة، والطريقة التي عبرت بها عن ذلك الصوت الأنثوي الغاضب والمحتج والحزين، والتفاعل بين الكلمات والرهان على تأثيرها، قد أدى إلى خلق حدث هام، لفت أنظار جميع أهالي رشيد، حين تم الإعلان في المدينة عن عودة الجنرال، متجاوزا كل شيء، بما في ذلك تخطيه للأوامر الصادرة له بالتوجه إلى القاهرة.

والأمر الملفت أنه قرر البقاء برشيد لشهور طويلة، متجاوزاً قرار القائد العام (بتاريخ 10 نوفمبر 1799) الذي أمهله ثمانية أيام فقط للوصول إلى القاهرة! كان كليبر قد أسند إليه تمثيل الجيش الفرنسي في المفاوضات مع ممثلي الباب العالي بغية الوصول إلى بنود اتفاقية شاملة، تضمن انسحاب الجيش بكامل عتاده والعودة إلى فرنسا. بيد أن مينو كان ” الصوت المعارض” في الأساس لتصفية مشروع مستعمرة مصر. وهكذا آثر مينو أن يُلبي نداء زبيدة، وأعرض عن الاستجابة لنداء القائد العام الذي أراد أن يورطه سياسياً، من خلال إشراكه في فكرة التفاوض على الانسحاب. وحاول كليبر أن يُغريه بحكم مدينة القاهرة عوضا عن رشيد، كدليل على ثقته فيه، لكن مينو لم يستجب، ولم يغادر رشيد.

ولعل العبارة التي سجلها في مذكراته، بيير دومينيك مارتان، أحد مهندسي الحملة، دالة بما فيه الكفاية على هذه النتيجة، إذ كتب يقول: “لم يتمكن الجنرال كليبر من إخراج مينو من رشيد، فهذا الأخير لا شيء يخرجه: لا الاستنفار العسكري لخوض معركة هليوبولس (عين شمس)، ولا حصار القاهرة (عقب ثورتها الثانية)”. ليبقى مينو إلى جوار زبيدة ولمدة ستة أشهر، أعيا كليبر عن الاستجابة لنداء رسائله المتكررة إليه. ومن دون شك، تظل الدلالة الكبيرة هنا لصوت زبيدة، أنه غيَّر من مسار تحرك الجنرال الذي لبى نداء صوتها ودعم موقفها. وهكذا أدت الجوابات، كوسيط يحمل الصوت، إلى خلق حدث ونتيجة.

والحقيقة أن كليبر على مدار تلك الفترة (ما بين نوفمبر 1799 وحتى نهاية مايو 1800) كان مشغولا بتطورات سريعة كادت تعصف بالجيش ومصير الجنود، جعلته يأنف عن متابعة جنراله العجوز القابع إلى جوار زوجته في رشيد. وما إن استقرت الأوضاع بعد إخماد ثورة القاهرة الثانية، وعودة الجيش الفرنسي إلى الانتشار في البلاد من جديد، حتى أصدر كليبر قرارا بتعيين الجنرال لانوس حاكما على الدائرة الخامسة (رشيد والإسكندرية والبحيرة)، وهو ما يعنى أن مينو بات مفصولا عن هذه الدائرة، حيث لم يعد أمامه إلا الانصياع لأوامر القائد العام والتوجه إلى القاهرة. 

وبالفعل اضطر مينو إلى مغادرة رشيد، وفى هذه الأثناء كانت زبيدة قد جاءتها البشارة بحملها منه، وهو وإن كان قد هوَّن عليها أمر سفره قليلا، إلا أنها لم تكف عن تواصلها الكتابي معه عبر الجوابات التي لأسباب وظروف نجهلها لم تصلنا. وعند وصول مينو للقاهرة، انبرى قلم مارتان الساخط على زبيدة ومينومعاً، ليكتب عبارته التالية:

“Kléber, qui commençait à prendre de l’humeur de cette opiniâtre résistance,

parvint à arracher Menou aux délices de son sérail.”

” إن كليبر الذي بدأ في الاستياء من هذه المقاومة العنيدة،

تمكن أخيراً من انتزاع مينو وإخراجه بعيداً عن مسرات حرمه [زبيدة]”.

وصل أخيراً مينو إلى القاهرة في 20 مايو 1800، وفى هذه المرة وعد زبيدة عن طريق رسالة كتبها إلى أخيها السيد على الرشيدي، بأنه حين يستقر به المقام في القاهرة، سوف يبحث عن منزل مناسب لها. لكن على غير توقع تمضي التطورات سريعة: الجنرال مينو المغضوب عليه من عدد كبير من الجنرالات المؤمنين بضرورة عودة الجيش لفرنسا، يصبح القائد العام للجيش، عقب الاغتيال المفاجئ للجنرال كليبر في 14 يونيو 1800، وتتغير معها وضعية زبيدة التي صارت زوجة صاري العسكر الذي يحكم البلاد. 

وبسبب حملها لن تتمكن زبيدة من اللحاق بمينو بالقاهرة. وكانت قد وضعت طفلهما الأول “سليمان مراد عبد الله جاك مينو” في ديسمبر 1800. وتعد الفترة ما بين مايو 1800 وأغسطس 1801، المرحلة الأطول التي شهدت فراقهما لمدة قاربت العام ونصف العام. وللأسف الشديد لا يزال مصير الكثير من جوابات تلك الفترة المتبادلة بينهما مجهولاً !

الإفلات من عقوبة الموت: زبيدة بين أصوات متناقضة 

كانت التطورات العسكرية قد أخذت ايقاعاً سريعاً على مدار عام 1801، حتى بات الاجتياح الأنجلو عثماني وشيكاً للبلاد، وعندها لم تأمن زبيدة على حياتها وحياة رضيعها. شقت طريقها من رشيد إلى القاهرة في فترة حرجة، سادتها الفوضى. وما كادت تمر ثلاثة أيام على استقرارها ببيت الألفي بك (مقر القيادة العامة للجيش)، حتى أمر الجنرال بليار، حاكم القاهرة، بسرعة صعودها إلى القلعة؛[1] فغشيها الخوف ما غشيها؛ فقد بدأ الحصار حول القاهرة، وبحسب نيقولا الترك: ” ارتجت قلوب الفرنساوية “![2]وتزايدت احتمالات نشوب الحرب والمواجهة المرتقبة.

وللأسف لم تصلنا عشرات الجوابات التي تبادلتها مع زوجها في تلك الفترة. ولعل ما كتبه أخوها السيد على الرشيدي، مطالباً مينو بأن يوافيهم بكتابة الجوابات دونما انقطاع، ليدلل على أن كل من زبيدة وأخيها لم يتوقفا عن الكتابة؛ لنقرأ ما كتبه السيد على البواب إلى صهره مينو، معبرا عن صوت الأخ الذي تملكته مشاعر التوتر والخوف على اخته ورضيعها، كما كان يخشى على نفسه من عقاب العثمانيين له ولعائلته:” ونعرف سيدي ان تراسلونا بالجوابات.. فلازم من ارسال الجوابات اول بأول وساعة بساعة لان حاصل عندنا اشتغال زياده فيلزم يا سيدي تطمنونا لاننا لا نطمن الا بجواباتكم”.[3]

مرت الأيام والأسابيع على زبيدة ثقيلة وهى حبيسة القلعة (طيلة شهري مايو – يونيو 1801)، لا يمكنها النزول منها، كما لا يمكنها أن تطلب انتقالها إلى الإسكندرية لتلحق بزوجها؛ فكل الطرق والسكك “مقطوعة”، ومينو بجيشه تحت الحصار. لكن بقاءها بالقلعة كان بناء على أمر من مينو، ليؤمنها وابنها تحت حراسة الجند الفرنسي[4]. وحين بلغها أن الجنرال بليار قرر الدخول في مفاوضات على الانسحاب وتسليم القاهرة (بدءا من 22 يونيو)، تنفست الصعداء وارتفعت أمانيها تلامس السماء بقرب انتهاء الحرب والحصار.

بيد أنها تفاجأت بأن العثمانيين يطالبون بشنقها، ولولا سعي مينو والجنرال بليار من جانب، وتدخل “هتشنسون”) القائد العام للحملة الإنجليزية (، من جانب آخر، للاقت هي وولدها مصيرا مؤسفاً. وأشارت المصادر الإنجليزية إلى أن هتشنسون تدخل كذلك بشأن زوجات الضباط والجنود اللاتي أهمل أمرهن، وأنه منع بذلك كارثة كانت محققة! [5] وهو ما أكدته المصادر الفرنسية كذلك، ففي التاريخ العلمي للحملة الفرنسية، كتب لويس ريبو، أن زبيدة وخاصتها في تلك اللحظة العصيبة كانت ” في وسط عدائي مروع” au milieu des hostilités flagrantes ؛ حيث اعتبر العثمانيون بأن عائلة زبيدة أخطأت خطأ جسيماً، وأن زبيدة بالرغم من أنها امرأة مسلمة، إلا أن زواجها من ” كافر ” جعلها امرأة ” مدنسة ” Souillée ، يتعين معاقبتها، وكانت بالفعل ستتعرض لأخطار حقيقية. [6] وهكذا اعتبرت زبيدة في نظر حكام السياسة العثمانيين مذنبة.

ويبدو أن موقف الجنرال هتشنسون المؤيد لحماية زبيدة وطفلها، وصوت كلماته القوية الحاسمة، وهيبته كقائد أعلى لقوى التحالف الأنجلو عثماني، قد مكنته من  لجم نزعة الانتقام العثماني، وفى خط متواز تحرك الجنرال الفرنسي بليار(حاكم القاهرة)؛ إذ فرض ضرورة عمل “ملحق تفسيري”[7] لمعاهدة تسليم القاهرة (27 يوليو)؛ فخصص بندا كاملا يتعلق بالست زبيدة، (هو البند رقم 3)، نصَّ على أن ” تنقل زوجة الجنرال مينو وابنه وياوره من القاهرة إلى الإسكندرية بطريق النيل على سفينة يعدها الحلفاء لهذه الغاية، وترسل معهم منقولات الجنرال مينو”. فيما خص (البندين رقمي 4 / 5) لزوجات الضباط والجنود والنساء الفرنسيات، واعطائهم المزايا نفسها بالمعاهدة من حرية الانتقال إلى فرنسا. 

أخيراً تنفست زبيدة الصعداء، حين ركبت السفينة التي أقلتها وابنها، وكأنها سفينة نوح التي نجت من الطوفان. أفلتت زبيدة إذن من عقاب العثمانيين، وكان في الإمكان أن تشهد مصيرا مشابها للنساء اللاتي اتهمن بمعاشرة ” الكفار”، كحال زينب ابنة الشيخ البكري (ابنة الستة عشر ربيعاً) التي كانت إحدى ضحاياهم.[8] كانت محاكمة زينب البكرية سريعة وقاسية إلى أبعد حد: فقد تم اجبار الفتاة على المثول هي وأبيها أمام الوزير العثماني. ورسم الجبرتي بقلمه ملامح هذا المشهد الصوتي المؤلم لمحاكمة صورية سريعة، جعلتنا داخل الحدث، نحس بصوت زينب الأكثر ارتجافا وخوفاً، في مقابل صوت أبيها المغلوب على أمره والحائر فيما يمكن قوله أو فعله، وصوت الوزير الجلاد، الذى اضمر في نفسه قراراً بإعدام زينب حتى قبل إجراء تلك المراجعة الصورية. وبالرغم من أن زينب استسلمت للتوبة على خطيئة لم تدرك معانيها ولا أبعادها، إلا أن الجلاد العثماني أنهى حياتها سريعاً، دون سند كتابي أو حتى الاستماع إلى شهود عيان يؤكدوا اقترافها لأي نوع من الخطيئة، فكانت أن دفعت حياتها ثمناً لمحاكتها نموذج مختلف لحياة نسوة فرنسيات! يقول الجبرتي: ” في يوم الثلاثاء رابع عشرينه طلبت ابنة الشيخ البكري، وكانت ممن تبرج مع الفرنسيس بمعينين من طرف الوزير، فحضروا إلى دار أمها بالجودرية بعد المغرب، وأحضروها ووالدها فسألوها عما كانت تفعله، فقالت:” إني تبت من ذلك”، فقالوا لوالدها: ” ما تقول أنت”، فقال : “أقول إني بريء منها” فكسروا رقبتها.[9]

الشاهد الأسود وآخر الكلمات عن زبيدة 

نجت زبيدة من جحيم العثمانيين، وسافرت مع ابنها (نهاية أغسطس 1801) مع السفن العائدة إلى فرنسا، ثم لحق بهما مينو (15 نوفمبر 1801). ومن جانبها ظلت وافية لمسار اختارته، تمسكت به وقطعت الشوط فيه إلى نهايته. 

ومع تعذر حصولنا على جوابات أو أي أوراق خاصة، يمكن الاستناد إليها لأجل مواصلة كتابة سيرتها، سواء خلال فترتها الايطالية (بين عامي 1804 – 1810) أو فترة السنوات الست الأخيرة التي قضتها بباريس[10]، فقد غاب من جديد صوتها، ذلك الصوت الذي أصبح استعادته أمر مرهون بما يُحتمل استكشافه مستقبلا من أوراق أو مستندات أو جوابات. 

وإذا كانت قد دُفِنت، بتاريخ 10 يونيو 1816، في مقبرة بير لاشيز بباريس، التي تضم رفات شخصيات عظيمة وشهيرة في التاريخ الفرنسي، فإن جسدها هناك، لايزال بإمكانه أن يحكى جزءا من قصتها وراء المتوسط، قصة امرأة عرفت كيف تعيش بين عالمين وثقافتين، ومثلت سيرتها صفحة مهمة من تاريخ علاقة الشرق بالغرب عند باكورة العصر الحديث.

إن آخر كلمات، كُتِبت على شاهد قبرها، تنطق باسمها وتعرف بها وبالمكانة التي انتهت إليها، لكنه صوت آخر، مغاير لصوت زبيدة، صوت أقرب للراوي الذي تابع حمل جثمانها إلى مرقدها الأخير، مسجلاً للتاريخ أنها ظلت وافية لعائلتها الجديدة ولم تتخل عنها، وحتى بعد وفاة مينو، في عام 1810، قررت البقاء بباريس حتى لبَّت نداء ربها. وجاءت آخر كلمات تم حفرها على شاهد قبرها:

Ici repose / Zébédée / El-Bahouab / veuve du général / comte / de Menou: jadis gouverneur / général des Etats / vénitiens / née à Rosette / en Egypte / et décédée à Paris / le 10 juin 1816 / âgée de 41 ans

“هنا ترقد/ زبيدة البواب/ أرملة الجنرال/ الكونت دي مينو/ الحاكم السابق لعموم ولايات البندقية/ المولودة في رشيد بمصر/ والمتوفية في باريس/ بتاريخ 10 يونيو 1816/ عن عمر يناهز 41 سنة “.

 هذا الشاهد الأسود الذي لا يزال قائماً على قبرها، يؤكد مجدداً عدم صحة ما ذهب إليه على الجارم، صاحب الرواية الأشهر عن زبيدة، من أنها عادت إلى مصر، ودفنت بمقبرة شهاب برشيد![11] ومن دون شك، فإن صوت المتخيل الأدبي يتراجع تماما أمام صوت زبيدة في الجوابات ومغامرتها وراء المتوسط وأخر كلمات سُجِلت على شاهد قبرها.

***

يتضح من هذه المقاربة حول صوت زبيدة، أن جواباتها وطريقة بنائها الإملائي، جعلتنا نستعيد عمق الإحساس بكلماتها التي نقلتنا إلى داخل الحدث وهى تواجه أزمتها الاجتماعية، نحس معها بحالة الفوران واضطراب المشاعر، ونلمح في داخلها النفسي شيئاً من الخوف والارتباك، بالرغم من محاولتها إظهار تماسكها وقدرتها على المواجهة، ما جعلنا نقترب من عالمها الداخلي اللامرأي، وكأننا معها هناك في هذا الزمن وتلك الأماكن

والأمر اللافت للنظر أن جواباتها، وتتبع أصداء صوتها فيما دونته من كلمات، رسم لنا بعض من ملامح شخصيتها، كامرأة مصرية واجهت أزمتها الاجتماعية بشيء كثير من العقلانية، ولم تتراجع عن مسارها الذي آمنت به، واختارت أن تمضي فيه حتى النهاية. وهذا يناقض الصورة التي قدمت عنها في الأدب، فلم تكن شخصية ” الأنثى ” الصامتة، مهيضة الجناح، مسلوبة الإرادة، ولا تلك التي تلاعب بها ثلة من المنتفعين لأجل التقرب إلى سلطات الاحتلال ممثلة في زوجها الجنرال، كما لم تكن شخصيتها تابعة أو مستسلمة لضربات القدر الأعمى تدفعها حيث تشاء. تلك الملامح الباهتة التي يحلو لمروجي صورة شخصية “المؤنث” أن يعمموها على نساء تلك الفترة دون تدقيق أو تحقيق. لقد أبانت الجوابات عن نموذج لسيدة مصرية، بالرغم من أنها كانت فتاة يافعة في مقتبل العمر، بالكاد لم تتجاوز منتصف عقد العشرينيات، إلا أنها كانت واعية في الدفاع عن خيارها الصعب، والتزامها بموقفها الصارم في الحفاظ على بيتها، دون أن تخسر تواصلها العائلي والإنساني، حتى أذنت ساعة رحيلها عن مصر في لحظة فاقت قدرتها على امتلاك خيار البقاء.

وهذا النمط من الكتابة المتدفقة، جعل الرسالة والصوت مقترنان، مما أتاح لزبيدة أن تظهر في جواباتها ككائن ” متكلم “، ليس في طريقة إملائها على الكاتب فحسب، وإنما ” كصاحبة صوت ” نستطيع أن نسمع أصداء كلماتها، وأن نحس بمشاعرها في لحظات الغضب والحزن والخوف والإصرار. ومن دون شك كان انتماء كلماتها وأسلوبها للعربية الوسطى البسيطة، التي نهلت مفرداتها من قاموس الحياة اليومية المألوف، قد جعلتنا نشتم عبق الكلام كما نتذوق نكهته، ونتعرف على نمط الكلام المنطوق أو السائد في زمانها، وطريقة التحدث وشكل الكتابة العادية الأكثر انتشارا في تلك الفترة من أواخر القرن الثامن عشر. 

ويجب الاعتراف بأنه لم يكن لتتاح لنا الفرصة لتتبع مثل هذه المونوغرافية العائلية بصوت زبيدة والفاعلين التاريخيين حولها، لولا توفر مثل هذا المصدر النوعي. ومن دون شك، فأن سردية زبيدة لا تخصها وحدها، وإنما تشمل في جوانبها سردية مينو نفسه الذي ارتبطت به حتى وفاته في عام 1810، ومن ثم فالجوابات لا تعطى إضاءة جديدة حول زبيدة وحدها، وإنما يمكن أن تساعد فى كتابة فصل جديد في حياة مينو الخاصة.


كيف نؤرخ للصوت؟.. قراءة في جوابات «زبيدة» زمن الحملة الفرنسية (5)

جواب من زبيدة إلى زوجها الجنرال مينو بتاريخ 11 نوفمبر 1799

قبر زبيدة رقم 44 بمقبرة بير لاشيز بباريس

[1] الجبرتي: عجائب الآثار، ج 3، ص 283، (يومية 1 محرم 1216/ 14 مايو 1801).

[2] نقولا الترك، المصدر السابق، ص 147 – 148.

[3] جواب من السيد على الحمامي إلى عبد الله جاك مينو ساري عسكر، ميكروفيلم: مجموعة وثائق من زمن الحملة الفرنسية خاصة خلال حكم الجنرال مينو – (Harvard University – M. 750).

[4] رصد الجبرتي رسالة من القائد العام مينو إلى ديوان القاهرة في أخر جلسة عُقدت بتاريخ 6 يونيو 1801، حيث أخبر مينو الديوان بوجود زوجته زبيدة وابنه في حصن القلعة، ووصايته لهم برعايتهما، انظر الجبرتي: عجائب الآثار، ج 3، ص 295.

[5]Robert Thomas Wilson, History of the British Expedition to Egypt, (London, T. Egerton, Military Library, 1803), p.64; Thomas Walsh, l’expédition anglaise en Égypte dans l’année 1800, traduit de l’anglais du capitaine Th. Walls,( Paris, la société de traduction, 1823 ), P. 248.

ومن الواضح أن هدف هتشنسون من تدخله الحاسم لإنقاذ زبيدة هي وابنها، كان بهدف التأثير على قرار القائد العام مينو العنيد، ودفعه إلى فتح باب التفاوض على تسليم الإسكندرية آخر معقل للفرنسيين في مصر.

[6] Reybaud, Louis, Histoire scientifique et militaire de l’expédition française en Égypte, Tome VIII, (Paris, 1830- 1836), pp. 370 -371.

[7] نشر عبد الرحمن الرافعي النص الكامل للملحق التفسيري: عبد الرحمن الرافعي، تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر، ج 2، ط 3، (القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1958)، ص 372 -373.

[8]  بحسب كرستوفر هارولد عرفت “زينب البكرية” في أيام الحملة بـ ” فتاة بونابرت المصرية “رغم عدم وجود أي شواهد وثائقية تؤكد تلك الرواية. وإن كان من الثابت أن العثمانيين اتهموها بارتكاب الخطيئة بتداخلها في الفرنسيين، انظر: كرستوفر هارولد، المرجع السابق، ص 219 -220.

[9] الجبرتي: عجائب الآثار، ج 3، ص 306 -307 (يومية 24 ربيع الأول 1216/ 4 أغسطس 1801).

[10] وفقا لدراسة ديدييه فيران فإن الحكومة الفرنسية بأمر من نابوليون خصصت لها معاشا استثنائياً، بلغ 6000 فرنك شهريا، يؤمن معيشتها مع ولديها من الجنرال مينو، وذلك بتاريخ 16 يونيو 1816. انظر: Didier Ferrand: Op.Cit, p. 120.

[11]  على الجارم، غادة رشيد، ص 140.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.