اللوحة: الفنان المصري صلاح عناني
محمد عطية محمود

عرَّف أرسطو الدراما بأنها “محاكاة لفعل إنساني”، فهي تنبت من خلال فعل حكائي يُصاغ في شكل حدث، يتخلل البنية السردية للنص السردي، يشتبك معها اشتباكا وظيفيا يؤدي إلى الوصول إلى معادلة النص، وهذه الحالة الحكائية تشكل إلى حد بعيد قدرة الكاتب على استنباط وتضفير الأحداث المتواترة والمتصاعدة التي تمثل حبكة العامل، وتضيف إلى بنيته السردية هذا الملمح التجسيدي أو التطبيقي للفكرة، فالدراما إذن عصب أساسي ورئيس في بنية أي عمل أدبي، تضمن له حالة التصاعد البنائي حتى يبلغ غاية اكتمال رؤيته..
ويبدو الملمح الدرامي المشتبك في عالم “نجيب محفوظ” من خلال تيمات متعددة، منها تيمة الصراع التي تسهم إسهامًا بالغ التأثير في نصوصه السردية فيما بين القصة القصيرة والرواية والملحمة، فهي تثري تلك العلاقات الجدلية الشائكة التي تجمع بين الأبطال والشخصيات من منظور ربما غلب عليه البعد النفسي التأثري بالبيئة الحاضنة والأحداث المتلاحقة/ المتشابكة التي تشكل هوية النص ، وهي الرموز التي تُعدُّ علامات فارقة في مسيرة الإبداع المهموم بتلك البيئة التي تشتعل فيها الصراعات الإنسانية الوجودية من منظورها المطلق، إلى جانب تلك الصراعات الثنائية المحدودة التي تمثل جزءًا لا يتجزأ من ضمير الوجود سواء كانت صراعات مادية صرفة، أو معنوية يسقطها النص السردي على الواقع بشكل عام، أو صراعات لثنائيات ضدية، إلى جانب صراعات مع الوجود وبين الظواهر الطبيعية والخوارق (ما وراء الطبيعة) التي تنمو لها ملامح إنسانية تشترك في علاقات ظاهرة وباطنة تخلق في النص السردي جوًّا دراميًا متصاعدًا، ومشتبكًا مع الواقع وتداعياته، ومع التخييل وما يملأ به المبدع فراغات العملية الإبداعية سعيًا نحو حالة من حالات اكتمال الصورة التي ربما فاقت الواقع وأصبحت أكثر تجسيدًا له، من خلال فعاليات هذا الصراع بكافة ألوانه..
القصة القصيرة، وحبكة الصراع
ففي حقل القصة القصيرة، المنطلق الأساسي والمواكب لإبداع نجيب محفوظ الروائي، نجد أن هناك ثمة نماذج قصصية عانق فيها الكاتب العالمي هذه التيمة من منطلق إبداعي يلتحف بالفكرة الأساسية للتعامل مع ظواهر الأشياء وباطنها، ومحاولة الاستدلال العقلي للوصول إلى جوهر حقيقة قد تكون غائبة؛ ففي نص “وجهًا لوجه”، من مجموعة “بيت سيء السمعة” نلمح تصارع الرغبة المستحيلة بين العاشقين اللذين يريدان أن يستأنفا حياتهما/ قصة عشقهما القديمة معًا بعد تفرق السبل بهما، ومرور الزمن وانقطاع تلاقيهما:
“في أقصى مكان بالحديقة جلسا شبه منفردين.. وطيلة الوقت تبادلا نظرة مفعمة بالتطلع والهناء وهما يحسوان الليمونادة..
ـ ستكون سهرة طيبة بسينما ركس.
ـ والفيلم مأخوذ عن قصة غرامية مشهورة فهو يناسبنا جدا”
لكن صراعهما مع الظروف المحيطة من أجل فوز كل منهما بالآخر، بعدما فارقت هي زوجها وابنها، و تخطى هو حاجز الأربعين دون زواج، يأتي متوازيًا مع صراع العالم بأسره مع حرب ضارية (هي الحرب العالمية الثانية) تلقي بظلالها على نفسية بطل النص (حامد)، والذي يأتي اسمه بدلالة عكسية، لتنم عن عدم قناعته وحمده، والتي تأتي من خلال تقنية السرد عن طريق الحوار الذي اعتمده النص ليدعم به بنيته كملمح من ملامح الدراما؛ مما يضفي على السرد حيوية وتدفقًا تمنح ميزة الكشف عن تاريخ مشترك كان قد جمع الاثنين معا، ومن خلال هذا الوسيط السمعي (الراديو) يهبط ذكر الحرب وأنباؤها على صدر (حامد) وعقله المشغول بالهاجس:
“وترامت نشرة أخبار الثامنة والنصف من مقهى بالسوق وراء محل بيجل فاقتحمت مجلسهما الهادئ المعبق بالياسمين، وتساءل حامد:
ـ هل الحرب وشيكة الوقوع حقا؟
فقالت باستهانة:
ـ هكذا يقولون منذ أن تولى هتلر الحكم.
ـ صدقتِ، المهم أن نتزوج في أقرب وقت ممكن”
وليطرح الحوار التالي استفهامًا حول موقف المرأة من زوجها السابق، والذي أصبح في ضميرها يمثل غيبا تهتـز لذكره شجونها، رغم تخلِّيها عنه بأي حال من الأحوال؛ لينغمس الحوار حول الولد وشجونها ومشاكلها مع زوجها السابق، وحياتها الآنية المتطلعة إلى تغيير.. إلى أن يطل شبح الحرب ثانية من خلال المذياع؛ فهو الآن بين حربين: حرب لاقتناص المرأة بما ترمز إليه، واستعادتها إليه بعد حرمان، وهي حربه الخاصة. وحرب مادية تدور على المستوى العام يكتوي بها فكره، وتتعلق عليها أمور شخصية كثيرة تبدو من خلال الحوار الدال، والذي يطل علينا أيضا من خلال شبح الابن/ ذكراه، والذي ينازع الرجل في الاستحواذ على اهتمام المرأة؛ لتصير الحرب في ذهن الرجل/ حامد، في مقابل الابن في ذهن المرأة/ سهام، كتصاعد درامي للحدث الآني المشتبك مع الماضي، والذي يجمع بينهما، وهكذا تنمو الدراما في النص من خلال هذا التوازي
- أنت منزعِج كما لو أن الحرب ستُعلن عليك أنت. بالله أخبرني لماذا ترى أن يتم الأمر في أقرب وقت ممكن؟!
- آه.. نعم يجب أن يتم الزواج في أقرب فرصة لأنني عُرضة للنقل إلى الخارج في أول حركة قادمة.
- عندك فكرة عن المكان المحتمل أن تُنقل إليه؟
- فرنسا .. تصوري أن يمضي شهر العسل في باريس؟!
- يا له من خيال! لو أن ابني سيبقى في كفر الشيخ.
- آه يا عزيزتي هل تدركين معنى ضرب بلد كبلدنا بقنابل الطيارات؟
- لماذا يضربوننا؟ لسنا أعداء لأحد”
دراما الحرب.. واقعيا ونفسيا
على هذا المنوال يتوازى التصاعد الدرامي من خلال الحوار أيضا مع تصاعد ضغط شبح الحرب على أعصابه، ثم يتوارى بعيدًا عن حوارهما التالي الدافئ المحمل بالأحلام، وتنسى هي الابن، وتحاول التحليق مع (حامد) في أحلامهما وأمورهما المستقبلية، إلى أن يطفو شبح الحرب مرة أخرى على سطح الحوار ضاغطًا عليه بشكل أكثر حدة:
- أما إذا ما قامت الحرب ونحن في باريس؟
- الحرب أيضا؟”
يأتي التساؤل بسمة السخرية والضجر من هذا المهووس بإشكالية الحرب والخوف منها، تلك الحرب/ الصراع المتجدد في صورة أخرى ماثلة تدور رحاها على أرض الواقع أمامهما كمعركة رمزية أخرى بين شخصين عابرين في فضاء المشهد الخاص بهما؛ لتحقق له هاجسه، بعدما غادرا الحديقة وهي تتأبط ذراعه؛ ليشهدا مشهد قتل ماسح الأحذية، على مقربة منهما، بهذه المشهدية السردية التي توقف تتابع الحكي لتصنع حدثا درامياً ماثلا ومعبرا عن الحدس أو توقع حدوث جريمة على أثر ما تجدد بينهما:
“صرخ الرجل متراجعًا إلى الشارع وقد سقط الصندوق من يده، تشبثت (سهام) بذراع (حامد)، وهي ترتعد، وفي نفس الوقت رفع الرجل الآخر يده بهراوته وهوى بها فوق رأس الرجل المترنح فوقع على ركبتيه متأوها.. تتابعت الضربات من الرجلين بسرعة في قسوة وعنف وإصرار حتى تهشم الرأس وغرق في بحيرة من دماء. وحملقت سهام في المنظر الدموي بلا إرادة ثم شهقت وتداعت مغمى عليها فتلقاها حامد بين ذراعيه”
هكذا تجسدت الحرب بدراميتها والصراع المتجدد فيها، على أرض الواقع لتلقي بظلالها ودماء ضحيتها على نفس (المرأة)، كما تمكنت الحرب الكبرى من نفس (الرجل) في شطر النص الأول؛ ليفتح النص باب التأويل لماهية الصراع الدائر على أرض الواقع، وإسقاطه على هذه المحاولة اليائسة لاستعادة الحياة لكلا الطرفين (الرجل والمرأة)، والتي توازت مع مصير هذا الرجل القتيل الذي نام عنه القتل/ الثأر لمدة عشرين عامًا، وهي تماثل أيضا الفترة الزمنية التي اختفت فيها (سهام) عن (حامد)؛ لتدهس الظروف المحيطة بكليهما، وبعلاقتهما الجديدة، حيث يبدو الصراع الثنائي بينهما موازيًا للصراع الثنائي بين المتقاتلين على أرض الواقع والمتقاتلين في أخبار الراديو.. في تصاعده الدرامي المتوازي..
ولعل نهاية النص قد أكدت على هذه المفارقة بينها وبين بدايته الحالمة، وإن كان قد شابها بعض القلق والتوتر من شبح الحرب/ الصراع غير المتكافئ، وبين ختام النص بين الدماء؛ حيث جاء مشهد الإغماءة التي تعرضت لها (المرأة)؛ لتستحيل غيبوبة العلاقة بينهما، إلى غيبوبة جديدة تخرج منها المرأة بنظرة أخرى نحو ملامح الرجل التي خضبتها دماء المعركة الدائرة حولهما، والتي استدعى أطيافها بهاجسه المستبطن فيه، ثم يواصل النص تصاعده الدرامي، حيث تتجلى لحظة الكشف ليفيق كل منهما على حقيقة وجهه بلا رتوش، ولتفيق هي تماما:
“بصرخة منها تفلت، وهي تشير إلى قميصه بعصبية منذعرة. نظر في مرآة فرأى رشاشا من الدم قد لوَّث أعلى قميصه، فتقلص وجهه ورأى مثله للمرة الرابعة وراح يزيل آثار الدم عن القميص والحقيبة والشال”
تبدو تراتبية الحدث وديناميكيته لتشهد على هذا التصاعد الدرامي ببلوغ النهاية المرجوة للنص/ الحالة الموازية للواقع والمماثلة له والمتعانقة مع مفهوم التخييل على المستويين الخارجي المادي، والداخلي النفسي؛ لتحتكم نتيجة الصراع إلى هذه الدلالات التي تؤول في غير صالح تلك العلاقة الإنسانية المرتجاة، التي خاضت الشخصيتان/ الثنائية المتضادة من أجلها هذا الصراع مع ذاتيهما ومع الآخرين نفسيا وماديا، في انتظار تأكيد حالة متجددة من الفراق، ما يؤكد على أهمية الدور الذي يلعبه التصاعد الدرامي للنص للوصول إلى معادلته، وما يقرب الفعل الدرامي هنا من مقولة أرسطو البليغة من أنه محاكاة لفعل إنساني، مشارك في البنية السردية الرئيسة.
محمد عطية محمود قاص وناقد مصري