اللوحة: الفنان الإنجليزي إدوارد لير
ماهر باكير دلاش

الحكمة لا تُكتب بالكلمات فقط، بل تُرى في الأفعال، وتُحاكى في الصمت، وتُفهم في الحركات التي قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى. ومن بين كلّ المخلوقات التي تُحلّق في السماء، كانت الطيور هي الأسبق في تعليم الإنسان أن الحكمة لا تأتي من التحليل، بل من التأمل، من القدرة على رؤية ما وراء الظاهر.
تبدأ الحكمة عندما يتوقف الإنسان عن البحث عن أجوبة محددة ويقبل المجهول كجزء من كينونته. ومنذ فجر الإنسان، كان للطير دورٌ رئيسي في تعليم هذا الفهم العميق للحياة. ولكن ربما كان أكثر المعلمين إلهامًا هو ذلك الغراب الذي ظهر في قصة قابيل وهابيل. في تلك اللحظة التي غسلت فيها يد قابيل دماء أخيه، لم يكن الندم وحده هو ما سيعطيه الدرس، بل كان للغراب الذي حفر في الأرض ليُدفن جثة أخيه، رسالة أكثر عمقًا من الندم ذاته.
عندما وقف قابيل عاجزًا عن معرفة ما يفعله بجسد أخيه، كان الغراب، في سكونه، يوضح له دروسًا في الحياة والموت. لم يكن الغراب معلمًا بالكلمات، بل كان معلمًا بالفعل، بحركةٍ بسيطة ولكن عميقة: الحفر في الأرض لدفن شيء ما. هذه الحركة البسيطة، التي قد نراها عادةً طقوسًا حيوانية لا معنى لها، كانت في حقيقتها درسًا فلسفيًا عميقًا. “الموت جزء من الحياة، والفقدان ليس نهاية، بل بداية لحياة جديدة في شكلٍ مختلف.”
لم يعلم قابيل حينها أن الحكمة التي أُودعت في هذه الحركة كانت أعمق من مجرد دفن جسد. كانت دعوة للإنسان ليتعلم أن الحياة تستمر رغم الموت، وأن الإنسان يجب أن يتقبل الفقد ويحترم الدورة الطبيعية للأشياء، وأن الزمن لا يتوقف لحظة لفقدٍ عابر.
الغريب أن الإنسان، الذي يفترض أنه الأسمى في المخلوقات، لم يتعلم هذه الحقيقة إلا من خلال الطير، الذي لا يملك اللغة البشرية، ولكن لديه فهمٌ أعمق بكثير. فهم أن الحياة لا تقوم على القتل والدماء، بل على القدرة على التكيف مع ما يحدث، والتعلم من كل لحظة، حتى وإن كانت مؤلمة.
الحكمة بدأتْها الطيور، هذه الكائنات التي تعرف كيف تطير مع الرياح، كيف تتحمل العواصف، وتعلمنا أن الحياة ليست دائمًا عن الوصول إلى أهدافنا، بل عن الرحلة نفسها. عن التقبل. عن الوجود في اللحظة. وربما في النهاية، تكون الطيور قد قالت لنا ما لم نكن نريد سماعه: الحياة أكبر من أنفسنا، وأكثر تعقيدًا من أن نعيشها على طريقة البشر وحدهم.
عندما تحلق الطيور في السماء، هي لا تفكر في المسافة التي قطعتها ولا في المكان الذي ستصل إليه، بل تترك نفسها للرياح، تتبعها وتنقضّ عليها بحرية، كأنها تعلمنا أن الحرية لا تكمن في الهروب من شيء ما، بل في الاندماج مع العالم كما هو. هي ترفض القيود، ولكن لا لأنها تعتقد أنها خُلقَت لتحلق فقط، بل لأنها تؤمن بأنها جزءٌ من دورة لا يمكن الهروب منها. الطير لا يهتم في اللحظة التي يطير فيها إذا كانت الرياح ضدّه أم معه، هو فقط يسير في طريقه.
تبدأ الحكمة إذن، عندما نرى الحياة كما تراها الطيور: رحلة لا تبحث عن هدفٍ واحد، بل عن معنى مستمر في كل لحظة، ومع كل خطوة. الطيور لم تطلب من أحد أن يعلّمها كيف تعيش، لأنها ببساطة تعلمت من الحياة نفسها أن تكمل مسيرتها بلا توقف، لا تلتفت وراءها ولا تترقب ما سيحدث لاحقًا. هذه هي الحكمة التي بدأتها الطيور، لا في فكرها، بل في وجودها.
الغراب، ذلك الطائر الذي علم قابيل، ليس مجرد رمز للغدر أو الظلام، بل هو مرشدٌ صامت للإنسان، الذي يعيش في تناقضاتٍ داخليّة قد تجعل من الفقد والحزن معلمين قاسيين. لكن الغراب، في تلك اللحظة التي دفن فيها جثة أخيه، كان يزرع في قلب قابيل درسًا أعمق من الندم: “لا شيء يبقى على حاله، والمرور بالموت ليس إلا تحولًا. “لقد علم الغراب قابيل أن الحياة تتطلب منا أن نكون قادرين على التعامل مع التغييرات الكبرى، مع الفقدان، ومع ما لا نستطيع فهمه.
يبدو أن الإنسان يحتاج أحيانًا إلى الطيور لتعلمه ما لا يستطيع أن يتعلمه من نفسه. الطيور لا تتوقف، ولا تنتظر شيئًا. هي ببساطة تعيش، تبتعد وتعود، تكمل دوراتها مع الأرض، دون أن تشتكي أو تتذمر. وإذا كانت الطيور تعلمنا شيئًا عن الحياة، فهو ببساطة: كيف نعيش دون أن نحمل أوزارًا لا تخصنا. كيف نتحرر من المفاهيم التي وضعناها حول النجاح والفشل، حول الحياة والموت، حول الحقيقة والخيال. كيف نطير مع الرياح دون أن نكترث لوجهتنا، لأن الرحلة في ذاتها هي الهدف.
الحكمة بدأتْها الطيور، لأن الطيور لا تنتظر أحدًا ليعطيها الشرعية أو الرغبة في العيش، هي فقط موجودة كما هي.
ما اثمن هذا النّصّ وأعمقه.
شكرًا أستاذنا القدير.
إعجابإعجاب
لطالما كانت الطيور..
هذه المخلوقات المدهشة، الرقيقة والجميلة
رمزا للحرية الأغلى من الخبز
ومصدرا لإلهام الشعراء وكتاب قصص وحكايات
الأطفال والكبار.
شكرا لك أستاذ ماهر
مودتي
إعجابإعجاب