رهن التحقيق

رهن التحقيق

اللوحة: الفنان الأميركي ماكس جينسبورج

محمد نديم علي

يقترب النهار من منتصفه واليوم بطقس صيفي قاس ورطب. 

بخبرة ورثها عن أبيه وجده، انهمك عم حسنين وولده الصبي، يعدان المشروبات والعصائر الباردة؛ يهشمان ألواح الثلج، يعبئان بها زجاجات ضخمة، ويصبان فيها شرابا مختلفا ألوانه لذة للشاربين من المارة تحت شمس الصيف الحارقة. 

يدفعان عربة خشبية ملونة، فوقها زجاجات كبيرة منتفخة تحوي العصائر الباردة. يقبعان في ركن من الشارع الرئيسي، على حافة رصيف نصف دائري عرضة للمارة السائرين. إذ لم يكن عم حسنين يملك دكانا، أو محلا يمارس فيه تجارته، فذلك أمر خارج عن حدود قدراته المالية؛ فصار وجوده في تلك البقعة من الشارع علامة، ومشهدا مألوفا لدى المارة، الزبائن وأصحاب المحال المنتشرة على طول الشارع؛ إذ يمثل لهم محطة ومركزا لارتشاف شراب بارد حلو ورخيص؛ يطفئون به غائلة العطش. ويرطبون به حلوقهم الجافة 

*** 

حين تستقر العربة، في المكان المعتاد، ينادي عم حسنين على مشروباته بصوت جهوري جميل. يتبعه في تناغم ابنه الصبي بصوته الطفولي البريء. 

ارتضى عم حسنين مهنته، شاكرا، صابرا محتسبا، وكيف لا، فهي تدر عليه ربحا يكفل له عيشا بسيطا، يستره، ويمنع عنه مذلة السؤال، وهو يعالج شظف العيش، في مسيرة حياته؛ مع زوجة جميلة صابرة عليلة القلب، التي كانت أحيانا تخرج معه إلى الشارع، ومساعده؛ ولده الصبي الوحيد. 

*** 

تمضي الحياة في سيرها المعتاد، مسالمة، هادئة، بين إعداد العمل في مطلع الفجر، حتى العودة في المساء، لإعداد طريحة أخرى من الماء الملون المثلج، لفترة تمتد حتى منتصف الليل. 

*** 

لم يسلم عم حسنين، وامرأته، وابنه الصبي من مضايقات رجال التنظيم أو الصحة؛ لكن الأمر لم يكن يتعدى دفع قليل من النقود كغرامة مالية، ربما بحجة عدم نظافة الأكواب، أو بتهمة باطلة كإشغال الطريق. غير أن الأمر كان يمر بخير دون غرامات، لو سد أفواه أولئك المتربصين بشيء من مشروباته الحلوة المثلجة، أو بسمة خجولة من زوجته المخلصة، في وجوه المتربصين. 

*** 

في ضحى ذلك اليوم، ما إن استقر بعربته يتبعه صبيه وزوجته، حتى انتشرت في الميدان أسراب سوداء، ذات خوذات وأقنعة لامعة، مدججة بالسلاح. 

امتدت تلك الحشود لتشكل حاجزاً أمنيا على امتداد رصيف الشارع على الجانبين. حاجز أمني لتأمين مرور المسئول الأول. هرعت مجموعة من الجند نحو عربة عم حسنين وصبيه، وهجمت دون كلام، وقلبت العربة وما عليها رأسا على عقب، وما هي ألا ثوان حتى وصلت شاحنة كبيرة ليلقى بعربة (حسنين) في صندوقها، ناهيك عن الضرب والصفع، لكل بائع متجول يقوم بالاعتراض أو المقاومة. 

سقطت زوجته العليلة من هول المفاجأة، فاحتد حسنين صارخا مولولا، وانفجر صدره عن كلام في الممنوعات. فقبض عليه رهن التحقيق. 

*** 

بمرور حرب وراء حرب، شاخ الصبي الأعور؛ الذي كان قد فقد إحدى عينيه، جراء انفجار قنينة العصير الزجاجية في ذلك الضحى المشؤوم. وكان قد هجر مهنة أبيه، فهو يعمل الآن حمالا في سوق الملح الكبير، يعيش وحيدا في غرفة رطبة.. وما زال أبوه حسنين غائبا.. رهن التحقيق. 

رأيان على “رهن التحقيق

  1. الأديب الراقي أ. وهيب
    تقبل تحياتي العطرة بالود والتقدير والاحترام.
    وأتمنى أن تنال محاولاتي اهتمام نقدكم الأدبي الواعي.
    شكرا لكم.
    والسلام
    محمد نديم علي

    إعجاب

  2. صديقي في الكتابة المبدع الإنسان الراقي
    محمد نديم علي – شكرا على هذه الإبداعية
    للإنسان المهمش…
    تلك المرة الأولى التي أكتب لك من القلب
    هذا التعليق…
    ولكن كل مادة لكم كانت محط اعجابي لقلمكم
    الرائع المغموس برائحة الإنسانية والمعرفة
    العميقة للسرد الممتع.
    بكل الحب والتقدير: وهيب نديم وهبة
    w.wahib@gmail.com

    إعجاب

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.