خطأ في تجميع الهيكل العظمي

خطأ في تجميع الهيكل العظمي

اللوحة: الفنان الهولندي فنسنت فان خوخ

لم يكن العقاد يؤلف العبقريات بالطريقة التقليدية، كان يقرأ تاريخ الشخصية كاملا، ثم يتأمل بحثا عن مفتاح الشخصية، مثل مفتاح الفندق الذي يفتح كل الأبواب، وهذا المفتاح جوهر الشخصية وروحها، فلا تفعل أو تتكلم أو تنحاز أو تخاصم إلا بِنَفَسٍ من هذا الجوهر أو الروح.

وهناك من يعتقد أنه أمسك بمفتاح أو جوهر الإسلام، ويحاول فتح كل الأبواب ومعالجة كل القضايا به، فلو كان المفتاح الخاطئ فسوف يتسبب في نكد الإنسان، ولو كان المفتاح الصحيح يكون الدين يسرا للناس وينالوا بركاته وثمراته.

***

العالم الهندي الشهير «وحيد الدين خان»، صاحب الكتاب الشهير «الإسلام يتحدى»، له كتاب بعنوان «خطأ في التفسير السياسي للدين»، كتبه نتيجة لحوار جرى بينه وبين «أبي الأعلى المودودي» رئيس الجماعة الإسلامية بباكستان، في الكتاب يقوم بنقد نظرة «المودودي وسيد قطب» للدين، يقول: 

«الدين يتكون من أجزاء، هذه الأجزاء قام بتبليغها الأنبياء ورعاها الصحابة حتى وصلت إلينا، ولم تكن وظيفة الأنبياء توضيح حكمة أو فلسفة «الصلاة أو الحج أو الشورى.. إلخ»، فمهمة الأنبياء البلاغ وليس الفلسفة التي وراء الوحي. “فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ”

أما مهمة البحث في الحكمة والفلسفة والهدفية لأجزاء الدين، ومحاولة بحث ناظم العقد الذي يجمع «يَنْظِم» الجواهر معا، تُركت لمن يأتي عبر الأجيال إلى يوم القيامة.

***

ولكل جزء من الدين حكمة أو فلسفة، وللدين ككل حكمة وفلسفة عليا، اذا بحثنا عن فلسفة الدين كله فنحن نبحث عن جوهره، ونبحث عن حاجة الانسان له، وبناء على هذا، يرى أنَّ «المودودي وسيد قطب»، بحثا عن حكمة وكتالوج وعنوان وناظم الإسلام، الذي يجمع أجزاءه فوجداه في كلمة «النظام».

مثل نظام الدولة، بمعنى استسلام الناس أمام قوة جبارة قاهرة يذعنون لها، وهي «الله» وشريعته التي ستطبقها الدولة على المؤمنين، استسلام لله يشبه استسلام الناس للحكومة القاهرة، وبهذا كل الأفكار عن الإسلام سارت في قناة تكوين دولة إسلامية ولها سلطة، وبدأت رحلة الإسلام السياسي، وحدث التشويه والفهم الخطأ، ولهذا كان إصرار «المودودي» على انفصال باكستان عن الهند، كخطوة لتحقيق هذه الدولة المسلمة، ثم انفصال بنجلادش الدامي عن باكستان وفشل كلاهما نتيجة خضوعهما لديكتاتوريات وليس دولة اسلامية نبيلة.

وندم «المودودي» في حياته وعانى من تجربته المؤلمة مع «محمد علي جناح» مؤسس باكستان، بسبب الخطأ في التصور والفلسفة، فما هو التصور الصحيح للإسلام في رأي «وحيد الدين خان»؟

***

يمكن شرح فكرة «وحيد الدين خان» بهذا المثال:

في المعمل وقف كل طالب أمام منضدة تحتوي على مجموعة عظام لمخلوق مجهول، على كل طالب تركيب العظام المتناثرة لهذا الهيكل العظمي، يفتش في العظام، ويتخيل الشكل النهائي، ثم يبدأ التركيب، أغلب الأشكال التي قام الطلاب بتركيبها مشوهة، والسبب خطأ الخيال، فالعظام مختلفة الحجم والتركيب والطول، ويصعب وضعها في غير موضعها، الطلاب الذين نجحوا في معرفة الشكل الحقيقي هم الذين ظهر هيكلهم متناسقا، وطبيعي أن من تصور الهيكل سلحفاة أو زرافة أو فهد أو غوريلا، يفشل حين يكون أمام عظام إنسان.

أدى تصور «المودودي» الإسلام «نظام»، إلى وضع قواعد وأدوات تتناسق وتُحكم بكلمة نظام وسلطة وشريعة، فهرع كل الشباب لتبني حلم «الدولة والقوة وصرامة التشريع والتعالي القيمي والسعي لضم الكل في دولة» فكان الحصاد، التيه الدامي والصدام في أغلب بلاد الإسلام.

وهنا قدم “وحيد الدين خان” تصوره عن عنوان وراية الإسلام، اعتمادا على فكرة أنَّ الإسلام دين الفطرة.

***

ذكر «وحيد الدين خان» أنَّ الحركات الإسلامية جاءت كرد فعل لسقوط «الخلافة الإسلامية»، والأولى أن تنشأ كرد فعل لسقوط «الحضارة الإسلامية» المبكر، ولهذا غلب الطابع السياسي على الطابع الفكري، وكان لا بد من دراسة أسباب سقوط «الحضارة لا الخلافة»، ولهذا نتعثر حتى اليوم وراء شعار «الإسلام دين ودولة»، وكان الأولى أن ندرك أن فلسفة الإسلام هي، ايجاد ربط علاقة «الخوف والمحبة والولاية والتوكل والصلاح والسلام.. الخ»، بمظهر العبادة، وأن غاية الإسلام أن يتغلب فكريا على غيره من الأفكار، يتغلب فكريا لا سياسيا ولا قتاليا، وأن يسعى لإقامة «امبراطورية الفكرة» وليس «امبراطورية الحكم».

***

سلطة استدعاء النموذج التاريخي لها تأثير كبير على شعوبنا الإسلامية، النماذج كثيرة وتطبيقاتها أيضا كثيرة، وذاقت الشعوب المسلمة ويلاتها إلى اليوم.

سافرت جمعية «علماء الهند» إلى بريطانيا ليتحدثوا مع الساسة، حاولوا إقناعهم بالضغط على «أتاتورك» لكي لا يلغي الخلافة العثمانية، وفشلت المحاولة، وفعلها أتاتورك، وكانت صدمة لهم، فتفاوضت إنجلترا الشريرة معهم لإنشاء كيان مسلم ينفصل عن الهند، فهي لا تريد أن ترحل عن الهند تاركة قارة تمتلك مواهب الإمبراطورية، وأغرتهم بأن تكون باكستان هي النواة الجديدة للخلافة التي زالت، فيحققون أحلامهم بالمدينة الفاضلة التي تقتدي بالمدينة المنورة، وبهذا أصبح النموذج التاريخي المختار هو المدينة المنورة، وانقسم أعضاء جمعية علماء الهند لفريقين يستندون لنفس النموذج التاريخي:

–           فريق يضم «أبي الحسن الندوي ووحيد الدين خان» وغيرهم ممن وجِّهت لهم سهام التخوين، لأنَّهم عارضوا الانفصال بحجة؛ أنَّ وثيقة المدينة التي عقدها النبي ﷺ، ضمت كل المسلمين واليهود والنصارى والمشركين وغيرهم، ولهذا يجب أن نجعل «الهند» هي المدينة، ويحيا الكل معا بالعمل على المشتركات.

–           وفريق يضم “أبو الأعلى المودودي” وشخصيات أخرى متحمسة، بمنطق فكرة المدينة المنورة، ولكن يعتبرون «الهند» كأنها «مكة»، بينما «باكستان» هي المدينة التي نهاجر إليها، كما هاجر الرسول ﷺ وأصحابه، ونظرا لأن الفرقة الأولى عقلانية وفكرية، والفرقة الثانية عاطفية واحتجاجية، انتصرت الفرقة الثانية شَعبيا، وانتصر «المودودي» ومن تبعه من التيارات الإسلامية وخاصة العربية، وتاه الشباب المتدين الذي دفعه هذا التيار وراء حلم نموذج الدولة والخلافة والسلطة.

***

أما عن رفيقه «أبو الحسن الندوي»، صاحب كتاب «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»، الذي اشتهر في العالم الإسلامي بحكمته واعتداله، وصاحب المبادرة بدعوات الحذر من منعطفات خطيرة في مسار الأمة الإسلامية، كتب كتاب مشابه لكتاب «وحيد الدين خان»، بعنوان «التفسير السياسي للإسلام»، كتبه أيضا ردا على «المودودي» وكانت دعوته غناء خارج السرب، ونادى بعدم الانفصال وقال: «إن الانفصال يُضعف المسلمين ولا يقويهم»، وصفها بإنها مؤامرة إنجليزية، ولن يدع الاستعمار تلك البلد المنفصلة بأغلبيتها المسلمة تنعم بالسلام أو التقدم.

وعندما ظهرت في العالم الإسلامي تيارات دينية بتفسيرات عنيفة تعزل المسلمين عن العالم، قال معلقا على كتابات أبي الأعلى المودودي وسيد قطب:«إنهم يغيرون كيمياء الإسلام، وسوف نجني نتيجة لهذه الكتابات إسلاما له كيمياء مختلفة عن الإسلام الذي نعرفه ووصل إلينا من منابعه الأصيلة، ولن نستطيع فيما بعد التعرف على الإسلام الأصلي».

لم ينصت له أحد، بل؛ وأتهم في نيته وفهمه، لكن التاريخ أثبت أنه كان على صواب وحكيما وصاحب رؤية وفهم عميق، وتغيرت كيمياء الإسلام وحدث الهرج الذي نحن فيه منذ ثمانين عاما.

***

منذ سنوات طلبت الحكومة البرازيلية من الأديان والطوائف المختلفة فيها أن يعرضوا ورقة تشرح دينهم أو طائفتهم وسوف يقدموها في منهج ليتعرف الطلبة على اختلافات العالم الفكرية والدينية، ويتعلموا قبول الآخر، وقدمت الهندوسية والبوذية والكونفوشيوس وبقية الطوائف ورقتهم، ولكن كانت ورقة المسلمين شديدة الصعوبة، فعن أي إسلام سيكتبون؟، السنة أم الشيعة أم التيارات السياسية أو السلفية أو الصوفية.. إلخ، فلكل منهم فهم مختلف، مثل اختلاف تصور الهيكل العظمي، وكان هذا الاختلاف والارتباك يمثل مظهرا غير حضاريا أمام البرازيليين.

***

 الاختلاف في الهيكل العظمي أشبه بطالب في امتحان، قرأ مسألة رياضية، وكانت تتحدث عن دائرة، ولكنه تسرع وتوهمها مربع، ورغم إخلاصه واجتهاده إلا أنه فشل في حل المسألة، لأنه طبق قوانين المربع على دائرة، وهذه هي أكثر أخطاء المسلمين، الاختلاف في الأسماء والمسميات.

***

قال أحد المفكرين الحكماء: الصحوة الإسلامية والأيدولوجيات الإسلامية الحديثة، كانت مثل عربة لم تستعمل منذ زمن، ثم ظن صاحب العربة أنهم يكفيهم أن يملأوا مخزن العربة بالوقود ويديروا المفتاح ثم ينطلقوا، فانطلقت العربة دون مراجعة وصيانة، فكانت المشاق والأعطال والحوادث الكثيرة، ولو قاموا في البداية بمراجعة أجزاء العربة والتأكد من أن كل جزء مكانه وبلا أعطال ثم انطلقوا، لكانت الرحلة ناجحة ومثمرة، ولكن هكذا حال من يستعجل الحركة قبل الفكرة.

المراجعات والمباحثات المشتركة بين المفكرين والعلماء هي أول الضروريات قبل الانطلاق وتطبيق النظريات على الناس، ولكن ثبت عبر كل مراحل التاريخ، أن الناس يستعجلون ببذل عرقهم ودمائهم في سبيل فكرة ولا يتريثون لدراستها حتى تنضج صالحة في عقولهم وقلوبهم.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.