اللوحة: الفنان الفرنسي جان لويس فورين
مارا أحمد

العالم كان لها أسرتها وعدد قليل جدا من الأقارب، كانت تحاول أن تنأى بنفسها عن أي إشارة تغضبها أو لمحة تنمر من الآخرين، كانت على درجة عالية من الذكاء والحساسية من أي تصرف قد يفهم منه سخرية من نقصها؛ أتت إلى هذا العالم مزودة بإمكانات التواصل والتعامل مع الحياة إلا من حاستين: حاسة السمع والتي أماتت معها قدرتها على الكلام، فكانت صماء بكماء.
حرمت من هبة الإنصات للطبيعة وتذوق أصواتها: حفيف أوراق الشجر وزقزقة العصافير، حتى صوت نهيق الحمار. لطالما تمنت أن يكون لها القدرة على أن تميز بين الصوت الجميل والقبيح، ولكنها مشيئة القدر. خرجت إلى الطفولة وقد تصورت أنها سليمة وأن كل من حولها مثلها، إلى أن خرجت تلعب لأول مرة، لتختلط بغيرها من الأطفال، لم تلحظ إشارات ولا إيماءات لا باليد ولا بالإصبع؛ الجميع يحرك شفتيه والآخر يرد، وهي غريبة، إنهم يتواصلون بالشفاه؛ هناك لغة أخرى للتواصل غير إشارات اليد، ترى حركات شفاههم ويتوجهون إليها بالكلام وهي في ذهول وكأنها نزلت في مركبة فضائية، لقد ظلت والدتها تخفيها عن الجميع وكأنها عار يجب أن تخجل منه.
صرخت وحاولت أن تخفي وجهها بين يديها، لم تتوقف عن الصراخ، فزع جميع الأطفال وهرعوا إلى ذويهم خشية ان يتهمهم أحد بأنهم أساؤوا إليها.
ذات يوم، كانت هناك زيارة من إحدى الجارات وبصحبتها ابنتها، رحبت بها ودعتهما للدخول، البيت بسيط جدا؛ غرفتان وصالة، لا مطبخ بل بوتاجاز بالصالة وتربيزة، يتم الطبخ عليها، والصالة بها مساند قطنية على الأرض؛ فالأب عامل يومية يعمل بالمعمار وحالتهم المادية تكفي بالكاد.
جلست الأم على الأرض، وكانت “إنسانة” تجلس بالغرفة الداخلية أمام التلفاز، لم تشعر بدخولهما، قدمت إليها ابنتها “نجاة”؛ كانت أيضا صماء بكماء، جميلة وأنيقة، فهناك اهتمام بالابنة ورعاية واضحة.
اعتذرت لها عن السلوك الذي صدر من الأولاد بحق ابنتها وأن هناك سوء تفاهم حدث، وأن الأولاد لم يسيئوا إلى ابنتها؛ هذا ما قصته لها نجاة، حيث إنها كانت تلعب معهم، لكن ابنتها شعرت بالخوف.
– ابنتك أيضا خرساء؟!
– نعم، لكني لا أشعرها بهذا النقص، وأحاول أخليها تلعب وتختلط مع الناس.
– إنها المرة الأولى التي أدع “إنسانة” تخرج لتلعب مع الأخرين، فهي لا تتكلم مع أحد غيري أنا وأبيها وأختها.
– البنت في سن المدرسة، لماذا لم تلحقيها بالمدرسة؟
– هو أنا قادرة على مصاريف إخوتها الأصحاء لأفكر في تعليمها؟ هي قاعدة تتعلم الطبخ والتنظيف؛ حتى تساعدني في شغل البيت وكفاية عليَّ تعليم إخوتها.
– حرام؛ من حقها أن تأخذ فرصتها وأن تتعلم؛ نحن لن ندوم لهم، والبنت لا بد أن تتعلم وتشتغل حتى تعول نفسها، حتى يستريح ضميرنا بعد أن نغادرهم ونرحل.
– كل واحد أدرى بظروفه، وكمان البنت نفسها لا تُشعر الناس براحة حين تختلط بالناس.
– عموما ربنا يوفقك ويقويك عليهم، لكن فكري، ولو احتاجت أي حاجة أو استخراج أوراق لا تتردي في طلب المساعدة مني. واضح أن ابنتك ذكية وممكن أن تتعلم ويكون لها شأن.
– أنا كان عندي بنتي الكبيرة مثلها خرساء؛ حبست نفسها عن الناس، تملك منها المرض وماتت.
– يعني هي ليست أول بنت بكماء؟
– لا، عندي اثنان غيرها.
– كيف تنجبين ثلاثة بكم ولم تعرضي نفسك للفحص الطبي؟
– إنه القدر والنصيب، لن نعترض أو نتدخل في قضائه وحكمته.
– حبيبتي، كما خلق الله المرض خلق العلاج، كان ممكنا أن تتجنبي إنجاب عيال بكم لو كنت عرفت السبب وأخدت العلاج.
– هل تعيرينني بمرض أولادي وتتهمينني بأنني سبب لخرسهم؟
– آسفه؛ يظهر أني لخبطت، بعد أذنك.
نادت على نجاة بصوت عالٍ، جاءت مسرعة وأمسكت بيد أمها.
– ابنتك تسمع؟
– نعم، لأني عملت لها زرع قوقعة وركبت لها سماعة، وهي في تحسن، وأعمل لها جلسات تخاطب.
– يا أختي أنتم ناس فاضية؛ تهدرين وقتك وفلوسك على الفاضي، وفريها يا أختي لجهازها، ربنا يرزقها لما تكبر بعريس، في الأخر مصير البنت للزواج.
– في رعاية الله.
– مع السلامة. أنست وشرفت.
نظرت إنسانة إلى نجاة نظرة حب؛ فلقد وجدت أخيرا فتاة تحدثها بالإشارة كما تفعل أمها وأخواتها، فلم تشعر بالغضب الذي شعرت به حين لعبت مع أولاد الجيران.
مرت السنون ولم تغادر إنسانه خلالها البيت إلا فيما ندر، ولأن الشقة كانت في البدروم، فلم تكن تدخلها الشمس؛ أصيبت بهشاشة العظام واضمحلت عظام جسدها، فلم تنمُ أو تطل، بل قصر طولها وأخذت شكل القزمة، وبدأت حركتها تضعف، وأصابت ركبتيها الخشونة وأسنانها ضعفت، وازدادت عصبيتها وانطواؤها.
في صدفه نظمها القدر، التقت نجاة بأم إنسانة وتعرفت إليها، سألتها عن ابنتها، فأخبرتها بمرضها، فوعدتها بأنها ستحضر لزيارتها.
صارت نجاة فتاة جميلة ترتدي الملابس الأنيقة.
رن جرس الباب، فأضاءت اللمبة الحمراء بحجرة إنسانة، استندت على عكازها وتوجهت إلى الباب لتفتحه؛ كانت تجلس بمفردها، فلقد ذهبت أمها إلى السوق وغادرت أختها البيت بعد زواجها، وبقيت هي وأمها.
تُفاجأ إنسانة بسيدة جميلة فارعة الطول تضع مساحيق التجميل، فبدت كما ممثلات السينما التي تشاهدهم على شاشة التلفاز الذي صار كما الرفيق لها تقضي جل وقتها أمامه، ما يصعب عليها فهمه تطلب من أمها ترجمته لها، فتصف لها الأم الأحداث بحركات اليد كما الرموز التي اتفقت بينها وبين أمها عليها حين تستعصي عليها أشياء لا تفهمها.
رحبت بها ودعتها إلى الدخول.
دار حوار بينهما بالإشارة، لامت إنسانه نجاة لغيابها الطويل عنها؛ فهي صديقتها الوحيدة.
اعتذرت لها قائلة: ظروف التعليم ثم الدراسات العليا والعمل، فلم يكن هناك وقت، ولكن كانت تطمئن عليها من أمها.
– لقد مرت سنوات طويلة منذ التقيت بك حينما كنت طالبة في الإعدادية.
– نعم أتذكر ذلك.
– هل فعلا أنهيت دراستك وحصلت على الشهادة كما الآخرين؟
– نعم.
– وماذا تعملين؟
– أعمل كمعلمة للصم والبكم.
– أنت صرت جميلة وأنيقة كما الممثلات اللاتي أشاهدهن على التلفاز.
– أشكرك.
– هل التقيت برجل أحبك؟
– نعم.
– هل رضي بك وأنت بكماء؟
– أنا أسمع قليلا وأفهم الناس حين يتحدثون بالإشارة.
– كيف؟
لقد تعلمت لغة الشفاه، فلست في حاجة لأن يتعامل معي الناس بالإشارة إلا فيما ندر.
– إشاراتك تختلف أحيانا عن إشاراتي، لم؟ وأنت مثلي؟
– لأنني تعلمت لغة الإشارة العالمية، والتي بها يتواصل كل البكم؛ لأنه لا يجوز أن يكون لكل أبكم رموزه الخاصة؛ لن يسهل بها التعامل فيما بينهم وأيضا مع العامة، لذا كانت لغة الإشارة التي سهلت أن يتعلمها الناس ويتعاملوا بها مع أي أبكم.
– تغيرت يا نجاة؛ صرت أقوى وأجمل، وأنا صرت أضعف وأقصر وأعيش حياتي بين الشاشة وأسرتي الصغيرة. يتعاملون معي كما الخادمة، ولكني رفضت ذلك وتمردت عليهم ولم أعد أخدم أحدا، وللأسف بمرور الوقت تيبست عضلاتي وتهششت عظامي، وصرت أتعكز كما العجائز، أرى بإصبعك خاتما.
– نعم، لقد تزوجت الشاب الذي أحببته، وصرت أما لابنة جميلة.
– تزوجت أيضا؟ وأنجبت؟ هل ابنتك مثلنا بكماء؟
– لا، بل تتكلم.
– كيف ذلك؟ لقد قالت لي أمي إنني لو تزوجت سأنجب أطفالا بكما مثلي؟
– الخرس ليس مرضا وراثيا يا إنسانة.
– التعليم أنقذك وجعل منك سيدة كما كل السيدات، أما جهل أبي وأمي حولني إلى بنت معاقة وعالة عليهم وعلى الناس والمجتمع، تعاملوا معي وكأني خطيئة يجب أن يخجلوا منها ودفنوني هنا.
– آسفه يا إنسانة، لم أقصد أن أضايقك، لقد جئت لكي أطمئن عليك ولم أتصور أن تكون حالتك الصحية سيئة هكذا؟ أنت تحتاجين إلى الشمس والهواء؛ لا بد أن تخرجي لتشاهدي الشمس وتستنشقي الهواء وتنخرطي بالناس، لا يجب أن تتقوقعي أمام التلفاز، ذلك العالم الافتراضي الذي يتحدث من طرف واحد، وأنت متلقية سلبية له، الحياة خارج جدار هذا المدفن.
– معك حق، أنا مدفونة، لكن الوقت تأخر، لقد ضعف جسدي ووهنت عظامي واعتدت الوحدة.
– لا بد أن تقاومي وتتغلبي على مخاوفك وتخرجي، سوف أمر عليك كلما كنت قريبة منك؛ لعلني أستطيع أن أمد لك يدي تستندين عليها وتخرجين إلى الأعلى حيث الشمس والهواء والناس.
انصرفت نجاة، وحين انصرافها التقت بأم إنسانة، لامتها على ما وصلت إليه ابنتها، كانت تحدثها أحيانا بكلمات بسيطة يتبعها أصوات غاضبة وأحيانا بالإشارة.
– أمي هل رأيت نجاة؟ صارت سيدة عاملة وأما، أما أنا فهنا أتفرج على التلفاز وأشاهدك وأنت تخرجين وتعودين، حضرت زواج إخوتي وأنا مختبئة خلف جدار حجرتي، لقد أشعرتني أنني عار يجب أن يتوارى عن الناس حتى لا ينعتونك بأم الخرساء.
تمددت إنسانة على فراشها والدموع غطت وجهها وعينيها.