أحمد إبراهيم عيد
أولاً – مفتاح السر:
أفضل دائماً فى حالة الاستفاضة من المبدع سردياً فى موضوعاته المطروحة.. وبعد قراءتى الأولية.. أن أبحث عن ما أسميه بمفتاح السر للعمل الإبداعى وقد اهتديت إلى مفتاح سر المجموعة.. أو فلنقل مفتاح السر لإبداع محمد غدية.. فى حوارية سرديةٍ ما بين (أنثى مُبهجة) و(مثقف واع ٍ) وذلك من قصة “طائر النورس” واستخرجت رؤيتى من خلالها على محورين هما:
(1) نوعية الإيمان الضمنى المتنامي بأهمية الإبداع وضرورته عند القاص
(2) أسلوبية الخطاب السردى القصصى التأملى بنصوص المجموعة.
تبدأ الأنثى الذكية المبهجة الحوارية لتقرر وتقرُّ للمبدع (بطل القصة).. “أن لغته فى الكتابة.. ثرية وفريدة وطازجة”.. وهذا بديهي!
وتأتى الأهمية المعرفية فى ذلكم الرد الدال من المبدع.. الذى يشتمل على “مفتاح السر” الفلسفى المُبسَّط إبداعيا ً: “إن الكتابة.. تطهيرٌ روحى.. تساعد على تأمل الأشياء والموجودات والناس”
نلاحظ هنا: أن “غدية” يسجل أيضا قناعاته الخاصة على لسان شخصياته.
ثانياً – الإطار أو المحور (الموضوعى):
الخطاب العام المحورى فى معظم القصص يقوم على تلازمية وترادفية حضور الأنثى الملهمة للمبدع بشكل ٍ متواتر.. وهذا يشكِّل حضوراً طاغياً للأنثى على مستويات متباينة ومتعددة:
- الزوجة الطموحة: التى “لا تسكن بها الروح” وهذا عنوان القصة التى تعالج.. ارتفاع سقف الطموح المُهلك لدى الزوجة التى تدمر أسرتها بطموحها المُبالغ فيه.
- المرأة العملية: التى لا تنسى ذاتها وأنوثتها على الرغم من ظروفها الحياتية وما يحيط بها من آلام.. فتنتصر بالأمل.. قصة “القدرة على التحليق”
- المرأة الغائبة: عن حياة الرجل وتأثيرات ذلك (سلبياً و إيجاباً) على الصراع الدرامى فى متون القصص.. “تجليات من دفتر الغياب” و” تشابه”.. كنماذج.
- الأنثى الضحية: والتى تعانى من إهدار أبسط حقوقها على يد المقربين لها والمسئولين عنها.. قصة “حداد لا يليق”.
- الجمال والمرأة: وسلبيات الجمال الزائد لدى المرأة (الذى يدمر العلاقات الأسرية.. وأيضا ً سلبيات التجمُّل المبالغ فيه (والمدمر أيضاً)…قصة “دورة أحادية الاتجاه”.. كنموذج.
- المرأة الحلم: وهذا عنوان القصة التى جاءت المرأة فيها كأنثى أثيرية مُتمناة ومُشتهاة من ذلكم الفنان.. الذى يرسمها كنموذج فنى مُبهر ثم يتوحد روحيا معها.. و”غدية” هنا يوظف مرة أخرى أسطورة (بجماليون) التى عولجت مراراً وتكراراً.. عالمياً ومحلياً.. (برنارد شو) مسرحاً.. و (توفيق الحكيم) مسرحاً.. ثم المعالجات المسرحية والسينمائية الكثيرة.. سيدتى الجميلة.. وغيرها.
- الأنثى المخدوعة: حيث يؤدى الخداع للموات المعنوى.. فى نماذج كثيرة سنتعرض لها لاحقاً.
- الفنانة المُزيِّفة: وتتناول هذه القصة جدلية الواقع والمتخيل فى لوحة (البؤس الزائف) التى تحاول صاحبتها الفنانة رسم لوحة لصبى يعانى من البؤس على المستوى الواقعى.. وتعطف عليه ملبية ً لاحتياجاته.. ثم يتركها فجأة دون أن تكتمل اللوحة.. فتتحايل برسم صبى من أقاربها تحاول أن تضفى على ملامحه البؤس المصطنع.. ورغم فوز لوحتها فى المسابقة الفنية.. إلا أنها تشعر بالزيف الذى تحمله ملامح البورتريه (الفائز).
- الأنثى الجانية: وتعالج قصة “غشاوة” و قصص أخرى مشكلة حب الامتلاك لدى المرأة باختطاف أزواج الأخريات.
وإذا كان كل ما مضى وغيره يمثل حضوراً طاغياً للمرأة.. فإن هناك تصنيفاً على مستويات أربع من قِبَل (الراوى العليم) المهيمن دائما ًعلى مجريات السرد.. والتصنيف كما يلى:
- الحضور الطاغي للأنثى بتفاعلاته الدرامية (السلبية و الإيجابية).
- الحضور المُتراجع للأنثى إلى حدٍّ ما فى ظل حضور الرجل (7 قصص فقط من مجمل قصص المجموعة..!).
- الحضور الهامشى للمرأة: ففى قصة واحدة حملت المجموعة عنوانها “تداعيات موت مفاجئ” تتواجد الأنثى تواجداً مجانياً.. حيث نراها فقط مُعجبة ببطل القصة طالب الحقوق الذى يترك تعليمه الجامعى ليعول أسرته بعد وفاة والده.
- اختفاء الأنثى تماماً فى قصة “وقائع يوم غائم” والتى تمثل مرثية لحال المهمشين المظلومين مجتمعيا ً وسياسياً وأمنياً.
ثالثاً – المحور أو الإطار الفنى:
ويتناول هذا المحور تنويعات الأسلوبية السردية فى قصص المجموعة فيما يلى:
(1) السطحية والعمق فى الخطاب السردى:
هناك تحركاً فنياً بشكل ٍ مزدوج سردياً ما بين السطحية والعمق التعبيرى.. بمعنى.. أنه كلما كان انحياز السرد إلى تسجيل الحقائق والتفاصيل المجردة واقعياً.. جاءت الصياغة السردية أكثر خشونة لتتناسب مع الطرح الموضوعى..
كمثال: من قصة “القدرة على التحليق” ومع قلق البطلة المُصاحب لخوفها من تغيُّرات جمالها.. يصفها السارد قائلاً: “يتخطى العمر صهوة جواد جامح.. تخشاه وتترقبه فى فزع.. يدق حوافره فى قلبها.. كإيقاع الطبول الإفريقية.. ص 20
وكلما انحاز السرد إلى تفعيل ووصف المعانى النفسية العميقة الرهيفة.. مال للنعومة والشاعرية..
من نفس القصة.. ونفس البطلة: “تسير بتمهُّلٍ نحو الأربعين.. تتأرجح بين كفىّ الألم والأمل.. وهى على يقين أن بحار الأمل لا يمكنها أن تجف.. مُفسحة لأنسام الصباح فرصة الانطلاق.. ومُداعبة الوجوه بلمساتها الحنون” ص 19
(2) الطرافة والسخرية سردياً:
تناوب السخرية المريرة أحياناً.. وطرافة التناول السردى فى أحيان أخرى.. التعبير عن ملابسات الواقع وإشكالياته المتنوعة: فى قصة ” موت رجل مهم ” تسخر أسلوبية السرد من الوزير وسكرتيرته الحسناء.. “تقوم بهذه الأعمال سكرتيرة ثلاثينية جميلةجداً.. لو رآها مريض السكر لمات على الفور.. ومن قصة “وقائع يوم غائم ” يتبادل المعتقلون ظلماً السخرية المريرة من حالهم:
“قال آخر: تماماً.. مثل القردة التى حملت حقائبها مهاجرة.. والتقى بهم الذئب سائلاً: إلى أين؟ قالت القردة: إنهم يذبحون الجمال.. قال: ولكنكم قردة..! قالوا: سنكون قد متنا من التعذيب حتى نثبت أننا قردة! ص 98
(3) أسلوبية السرد الوصف المشهدى:
يتناول رسم المشهد الحيوى بعض التفاصيل الجمالية (للألفاظ والمفردات) التى يتصاعد معها تفاعل الملتقى للتواصل والتعايش مع دقائق ورهافة وشفافية المشهد الموصوف..
فمن قصة “سحر الكلمات” نرى ذلكم المشهد.. “تعمَّد الجلوس جوارها.. جمالها من النوع اللافت.. وجهها غريق (الأصح.. غارقاً) فى الصفاء.. تنثر اللؤلؤ عندما تبتسم.. وتنثر الزهور عندما تتكلم.. فتذيب الجليد وتنشر الارتياح
أيضا يحمل الوصف السردى طابع المفارقة.. ففى قصة الحالة “غضب البحر” التى تصور ذلكم المثقف الحالم الذى تعاكسه ظروفه الحياتية الغير مواتية.. “فى ذلك المقهى الذى يرتاده بعض الأدباء والفنانين.. اختارتهم طاولة تبعد عن حلقات النقاش والثرثرة.. والدخان الذى يسبحون بداخله.. والتخلف عن هذه السجائر المحترقة” ص 101
(4) السرد وأسطرة القص: تتجلى أسطرة القص فى بعض القصص والمثال الأبرز… فى قصة “المرأة الحلم” التى يجنح فيها الكاتب إلى تفعيل دور الأسطورة قصصياً وذلك بطرح جدلية تماهى الفنان بالكلية مع جماليات إبداعه الفنى: امرأة مرمرية التكوين.. فواحة الحضور.. ابتسامتها تسقى جفاف روحه.
وتأتى قمة الانفعالات والتوحد معها “لا يدرى من أدار اللوحة وجعلها فى مواجهته.. نسى أنه من دار حول اللوحة”، ثم يأتى الالتفات اللغوى والمعنوى فى تغيير التوجه بالسرد من الفنان إلى اللوحة ذاتها: “تبتسم له.. تشكر فيه الفنان والجواهرجى الذى أوجدها من العدم” ص 72
(5) التوصيفات السردية الداخلية والخارجية:
تتراوح التوصيفات السردية (الخارجة من رحم الشعر) بين الدفقات الوجدانية فى ترسيخ المشاعر الإنسانية ليتفاعل الملتقى معها تفاعلاً وجدانيا ً يتسامى مع طبيعة السرد التوصيفى جمالياً فمن قصة “سحر الكلمات”، “كم هى جميلة ورقيقة جداً.. امرأة ٌمنحوتة ٌمن زمن الأساطير.. موشاة ًبالطواويس وحوريات البحر”، ومن قصة ” تضع الزهور بقبرى”.. نجد هذه المفارقة التوصيفية السردية: “الحياة دون حب تصبح عدمية غير مميزة.. كأوراق يابسة تكنسها رياح الأيام.. فى صدره ربيع أينع قبل أوانه.. وجهها بسيط ٌمريح.. لم تلوثه الكريمات ولا ندوب الشباب” ص 66
رابعاً – تواتر التضمينات المعرفية:
عبر مجموعة من القصص نلاحظ ورود وتواتر بعض التضمينات المعرفية المتنوعة التى تثرى الأنساق السردية وتهدئ إلى حدٍّ ما من التوترات الدرامية المختلفة الناشئة عن الصراع النفسى أو الصراع الحركى:
فى قصة “طائر النورس” تأتى التضمينات المعرفية التاريخية لتغلف حالة من حالات الدراما الغزلية: “أضاف أنها تشبه (كليوباترا) بعينيها الساحرتين.. تسأله وقد اشتد لمعان عينيها الجميلتين عن معنى اسم كليوباترا.. أجابها: إنه اسم مكون من مقطعين (كليو) ومعناه “فخر”.. و(باترا) ومعناه “وطن” أى فخر الوطن.
وفى قصة “طيور بلا أجنحة” تأتى التضمينات المعرفية لتخفف من وطأة الانفعال فى السياق النفسى لحالة الرجل الذى (بلاحظ) لأنه (بلا أنثى) والتوصيف هنا يعتمد على إحدى المشاهدات التأملية التى يرصدها الكاتب مسجلاً للمفارقة.. “هناك عوالم مدهشة فى الطبيعة.. فى واحدة منها ذلك الطائر الذى يتنقل بحرية دون خوف بين فكىّ التمساح ليلتقط الفضلات من بين أسنانه.. ويأكلها فى آليةٍ ووداعة” ص 61
وفى قصة “موت رجل مهم” يأتى التضمين المعرفى بتواريخ الصناعات ليخفف أيضاً من وطأة السرد التوصيفى لحالات النفاق والمداهنة وما يصاحبها من قلق وتوتر لذلك الوزير الذى يخشى من ضياع أبهته وهيبته.
“يتسلى بتأمل الأشياء والموجودات.. تلك السجادة الإيرانية الفاخرة.. وأثاث المكتب الفرنسى الصنع” ص 90 وفى عودة إلى قصة “وقائع يوم غائم”.. تؤدى التضمينات المعرفية الثقافية دوراً هاماً فى التخفيف من وقع المرثية المجتمعية الناشئة عن دراما المفارقات السلطوية والسياسية والأمنية بإسقاطاتها المتنوعة.. “القردة التى حملت حقائبها مهاجرة.. (سبق ذكرها)
خامساً – الحيل الفنية قصصياً:
يمارس الكاتب من وقت لآخر تقنية (كسر الإيهام المُتوقَّع لدى الملتقى) من آنٍ لآخر.. فى مناطق سرديةٍ متوهجة فى بعض القصص.. مثل قصة “تجليات فى دفتر الغياب” التى خرجت عن السياق العام وجاءت البطولة فيها للرجل: “المُهندم الأنيق.. حتى أن المرآة بادلته الابتسام مؤكدةً على أناقته..” مشَّط شعره.. بعد أن خلطه بالطيب.. وقفز السلم كل درجتين فى قفزة كأنه سنجاب”..
الوصف السردى يؤكد على النشاط والحيوية مع الأناقة.. ولكن.. فى مقطع لاحق يصل للمقهى.. ونلاحظ أنه – مع عدم ذكر الترابية الزمنية – يتغير حال ذلكم الأنيق..
“إنه نفس المقهى.. ونفس الرواد.. ونفس النادل.. لابد أنه هو الذى تغيَّر لدرجة أنهم لم يعرفوه.. وأنكروووه” ص 26.. تتحرك الصياغة السردية هنا – فنياً – لتدخلنا لتقنية المونولوج الداخلى.. فالبطل يحادث نفسه مُستطلعا الأمر وكأنه لا يشعر بالتغير “المرآة.. لابد من استطلاع الأمر أمام مرآة المقهى.. إنه لا يحمل نفس الوجه.. بنطاله الذى كان فى لون الصبح أصبح كالحا.. والقميص السماوى أصبح باهتا.. ولا وجود لحزام ولاغيره” إلى هذا الحد فى الصياغة السردية.. ومع عدم ذكر أى انتقالات زمنية.. يمكن القول بأن الكاتب قد دخل بنا.. أو على الأقل تماس سردياً مع تقنية الصياغة فى نطاق (الواقعية السحرية) فالحالة هنا تكفى..
ولكن الكاتب للأسف يكسر ذلكم المتماهى مع الواقعية السحرية (إلى حدٍّ ما) حين يأتى – بعد ذلك – بهذه التقريرية الزمنية: “كل صباح يموت جزءٌ منه.. أشياء كثيرة تبدلت منذ رحيل زوجته”
سادساً – تنويعات سرديةٍ حول (الموات المعنوى):
(1) مقاومة الموات المعنوى (الواقعى) بالمحاولات التعويضية إبداعيا ً (بالخيال والتخيُّل)..
والمثال لرجل وامرأة.. “كلاهما تجرع المرارة بترفُّع.. وقاوما الذبول بشموخ”.. ثم “ابتعدا عن المقهى والناس.. ليقفزا داخل لوحةً بديعة.. فيها شموسٌ دافئة.. وشواطئ هادئة.. وأطفال من حولهما.. يقيمون بيتاً من رمال” ص 15
(2) الاستسلام للموت المعنوى والتماهى معه فى نماذج للموت الواقعى..
من قصة “حداد لا يليق”
مع رفض الأب (المتسلط / الجهم) لكل فرص الحياة الطبيعية لابنته.. تدخل الابنة فى حالة حادة من الاكتئاب فهى.. “شاردة طوال الوقت.. لا هى حية ولا ميتة” ثم إنها تتماهى وجدانيا ً مع تلك “الشجرة التى يذبحونها.. التى ستذهب بعد الموت إلى صانع التوابيت… تبكى موت الشجرة.. وعمرها الذى يمتطى صهوة جوادٍ جامح” ص 33
(3) الخداع الإنسانى يفضى إلى الموات المعنوى:
والنماذج كثيرة.. لكننا نكتفي بنموذج تلك المرأة المخدوعة من الرجل.. والتى يشكِّل الخداع لها صدمة نفسية غير محتملة.. ف “تدور حول نفسها بلا قدرة ٍ على الرؤية.. فى ظلمة ٍ هبطت عليها فجأة.. تريد إن تغادر وتمضى بلا هدف.. بعد أن استولت المرارة على دهاليز روحها.. وتركتها وحيدةً.. فى مدن ٍ خربها العشق” ص 40.

أحمد إبراهيم عيد