العرب بين يحيا ويسقط

العرب بين يحيا ويسقط

اللوح: الفنان المكسيكي دييغو ريفيرا

في هذا العنوان خطأ وخطيئة العرب الكبرى، خطأ؛ حين قلناها أول مرة ولم ندرك خطرها، وخطيئة؛ حين قمنا بتكرارها، في زمن الاستعمار وعقب الحرب العالمية الثانية وبداية سيطرة أمريكا على العالم، قامت حركات تحررية نادت بنداء واحد: «يسقط الاستعمار. يسقط الظلم. تسقط الرجعية.. إلخ»، وامتلأت الدنيا ب «يسقط» بلا عدد، والنتيجة ما نحن فيه اليوم، ولا يحتاج الأمر مزيد شرح. 

فالعالم العربي في خطر شديد، والحكومات العربية جالسة فوق «خوازيق» حادة، فلا تهتم سوى بنفسها، والشعوب لم تعد تثق في الغد، والسبب هو الخطأ والخطيئة الأولى منذ قرن حين قلنا: «يسقط» بدون خطة عنوانها «يحيا».

بسهولة وبوعي كسول، تستطيع أن تدرك ما تريد هدمه والتخلص منه، وبصعوبة وبوعي يقظ ومثقف، تستطيع أن تدرك ما يجب بناءه وإحياءه، فأي شيء يسقط دون رؤية البديل، سوف يحل مكانه الأسوأ، لأننا حشدنا جهودنا في خطة هدم وفقط، بينما خطة البناء تحتاج حكمة، والحكمة عزيزة.

«وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» في هذه الآية حكمة بالغة لا تصدر إلا من السماء، الحق يحضر فيزهق الباطل ويرحل، الحق يحضر وفقط ثم يرحل الباطل الملول، فالباطل لم يحضر إلا حين غاب الحق، مثلما يرحل الظلام بانتشار الضوء مهما كان خافتا. «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا»

وحين ننادي «يسقط» نطلب من الباطل أن يرحل قبل حضور الحق، فيحل فراغ يشكل مصيدة للأشرار.

ولهذا قل ولا تقل:

قل يحيا العدل ولا تقل يسقط الظلم فإن الظلم كان زهوقا.

قل يحيا السلم ولا تقل تسقط الحرب. فإن الحرب كانت زهوقا.

قل يحيا الإيمان ولا تقل يسقط الكفر. فإن الكفر كان زهوقا.

قل يحيا الديمقراطية ولا تقل تسقط الديكتاتورية. فإن الديكتاتور كان زهوقا.

قل تحيا الكرامة الإنسانية ولا تقل تسقط الإهانة. فإن الهوان كان زهوقا.

اجعل من رؤيتك وخطتك ونداءك … «إحياء قيمة»

ففي حياة القيم سِلم في الوسائل وحَمد في الغاية ورُشد في العاقبة.

***

هناك ملحوظة نتغافل عنها تحت وطأة الأناشيد الوطنية، لم يرحل الاستعمار عن الوطن العربي فقط بسبب ملايين الشهداء، الشهداء أزعجوا المستعمر ولكن لم يكونوا السبب المباشر للجلاء، فالفرق كان هائلا بين أدوات المستعمر الحديثة، وأدوات الشعوب المستعمرة «المتخلفة»، لم يرحل المستعمر إلا حين تحطم على صخرة الحرب العالمية الثانية، لم يعد في طاقتهم تحمل تكلفة الاحتلال، وجاء المستعمر الأمريكي الشاب ليحل محله، وأشار بيده إلى كل المستعمرين، فتراجعوا جميعا وتركوا فراغا هائلا ليملأه بطريقته، وفي سنوات قليلة جرت انقلابات عسكرية بالتراضي مع الأمريكان، ليبدأ عصر الاحتلال الرخيص عن بعد، وصعد لكراسي الحكم العربي ملوك وزعماء مغامرون إلى المرحلة الجديدة، وصعد معهم أبواق الشحن القومي، فأصبح القادة الجدد آلهة لهم سلطة مطلقة في بلادهم، تمارس عبادتهم في المدارس مع تحية العلم وفي الأغاني الوطنية والساحات الرياضية وفي كل تجمع شعبي، تسبيح بفلان حبيب الملايين، وفلان إلى الأبد، وفلان إبن الأنبياء، وتصاعدت هتافات «يحيا ويسقط» خلال ثلاث أرباع القرن الماضي، وكلما خرج شعب من فخ حاكم مطلق دخل في فخ الآخر بلا نهاية لهذه اللعبة المشؤومة على العرب، لعبة يحيا ويسقط، ولعبة انتظار الزعيم الكاريزما الجعجاع الملهم والطيب، الطيب بعكس السابقين الأشرار، فهم دائما أشرار، ومازلنا نحلم بالطيب، لأننا طيبين قوي.

دوامة «يحيا ويسقط» لا بد أن تتوقف، ولا بد أن نفهم، لا بد من التوقف عن فكرة أن يتزوج أو يغتصب شخصٌ شعبا كاملا بعقد غليظ ثم يجعل العصمة في يده، ويظل الشعب يسبح بحمده ويختزل الشعب كله في رغبات وقرارات ونزوات هذا الإنسان الإله، الخلل في أفكار الشعوب التي تحلم بحكم الأصنام البشرية، في حين أن الواقع أسهل وأنجح، واقع أن نكون دوائر وتروس لها أسنان تتشابك وتتداخل لتدير عجلة الحياة بكرامة ورشد، وواقع أن تتعاون الطوائف معا بحب وبلا تحامل وبعيدا عن فكرة الولاء والبراء القاتلة، وحين يحدث هذا لن يستطع أي أنسان أن يمد يده ليجذب الشعوب من رقبتها، لأنه لن يجد حول رقتهم طوق الخلاف والتخلف.

***

من أصعب الفترات في تاريخ الشعوب والأفراد، مرحلة الانتقال الطبقي، حين ينتقل الإنسان طبقيا يحدث اضطراب للجميع، والأمثلة كثيرة.

مثلما حدث عقب ثورة 1952 بمصر، تأميم ممتلكات ومصادرة أراضي زراعية وإعادة توزيع الثروة وتعظيم للمهن العسكرية وتبادل المقاعد بين الأثرياء والفقراء….. مثاله أيضا:

حين كثر السفر للخليج للعمل، حين ضُربت الطبقة المتوسطة في الصميم وأصبحت المهن الحرفية تمتلك المال بينما افتقر الموظف وأصحاب المؤهلات العليا ودكاترة الجامعة.

في هذا الانتقال يصعد الإنسان بأخلاق وطباع ونفسيات ومفردات وعادات طبقته، ويصاب بالقلق في هذه الطبقة، يريد أن يتلاءم وينسجم معها بلا تكلف، ويظل في تجاذب بين طبقته القديمة والجديدة، وتصبح مشاعره أشبه بمن قفز في الهواء، ولا يحدث الاتزان إلا مع الجيل الثاني من أولاده، وهذا يحتاج زمنا.

في هذه الأمثلة للانتقال الطبقي تدور عمليتان متزامنتان، هدم ما يجب التخلي عنه مما ينتمي إلى الطبقة القديمة وبناء ما يجب التحلي به للتماشي مع الطبقة الجديدة، وبمرور الأيام تتجذر طباع ومشاعر ومفردات الطبقة الجديدة فيه.

والغريب أننا منذ رحل الاستعمار عن بلادنا والشعوب العربية تعاني انتقال طبقي لا يتوقف، فلا تتمكن أي طبقة من الاستقرار في طبقتها الجديدة، لأنها بمجرد شعورها ببعض استقرار يحدث انتقال أخر أكبر حدة يزلزل الجميع ويدخلهم في دوامة مشاعر الاغتراب.

عمليات الهدم الحاد والبناء الحاد مستمرة وهي بالضبط نفس عملية؛ «يحيا ويسقط»

ومن أخطاء البشرية في التسرع بالهدم وفقط قصص التخلص من الحيوانات أو الطيور أو الحشرات التي تتسبب في ضرر ما قد يخل بتوازن الطبيعة، وهناك حكايات كثيرة عن تدخل الإنسان بالتخلص من كائنات تسببت في ضرر واضح ولكنها كانت تمنع أضرار أكثر خفية، ومثال ذلك في الصين، في عام 1958، شن الرئيس ماو الحرب على العصافير الصغيرة التى سرقت قليلا من الحبوب، وأمر بقتلها لزيادة إنتاج الحبوب، حيث قال “الطيور هي حيوانات عامة للرأسمالية”، وبالفعل شنت حكومة ماو حملة للقضاء عليها، وطارد الصيادون المحترفون والقوميون العاديون العصافير، و دمر الناس أعشاشهم وحطموا بيضهم، لم يدرك “ماو” أن العصافير كانت تقتل الحشرات التي تسببت في أضرار أكبر بكثير للزراعة، أدى الخلل الإيكولوجي الناتج عن ذلك إلى تفاقم المجاعة الصينية الكبرى ما بين 1958 و1961 والتي قتلت ما بين 15 و45 مليون شخص، وهناك قصص كثيرة مشابهة تبرز أن الهدم دون دراسة وخطة بناء لها عواقب كبيرة.

***

في برنامج “شاهد على العصر” الذي يستضيف «مهاتير محمد»، سأله المقدم عن سبب مدحه في مذكراته الاستعمار البريطاني، قال: «قبل الاستعمار البريطاني كان الحكم الملكي الاستبدادي يُسيطر على كل شيء ويحوز كل شيء، فلا يصل كثير خير إلى الشعب، الإنجليز منظمون، وأسلوب الحكم كان مفيد مقارنة بالاستبداد، فالقانون مطبق ولم تكن هناك اجراءات عشوائية خارج القانون ضد الأفراد، وكانت جباية الضرائب أكثر كفاءة وتؤول إلى خزينة الدولة وليس الملك، ويؤخذ منها للتعليم والعلاج الطبي والإنشاء، وضبطوا القضاء وأداروا الأمور بشكل أفضل من المَلك»

ومازال هذا الزعيم النادر يدهشني بسلامة صدره ورجحان عقله، فقد كان مجاهدا ضد الاستعمار ولكنه مدح ما فيه من خير، والخلاصة التي قالها هي: «الاستبداد أسوأ ألف مرة من الاحتلال»، ولهذا حين تحررت ماليزيا من الإنجليز اختارت ممارسة الديمقراطية وتبرأت من الاستبداد، وبهذا فهي اختارت خطة البناء التي ستتلو الهدم، فنادت بسقوط الاستعمار وإحياء الديمقراطية، وها هي ماليزيا اليوم في مقدمة دول العالم.

***

أسوأ قرار في الدنيا هو الانسحاب بكلمة واحدة: «انسحبوا».. تخيل في خضم سخونة الحرب والكفاح والصراع يصدر أمر «مثلج» بالانسحاب!، على المستوى الاجتماعي صدر الأمر للمصريين بالانسحاب منذ رحل الإنجليز، انسحبوا وسوف نوفر لكم وظائف وتعليم وسكن وأجهزة تنفس صناعي وزراعي ومعدني، «ومن دقنه وافتل له»،، ولم يتعلم المصريون المسؤولية، واليوم يحيا الجميع في مناخ الانسحاب، والانسحاب يعني فوضى ولا خطة ولا وسائل حماية، «كله يجري يا جدع»، يوم يفر المرء من أخيه، وعندما يهرع الكل ويجري ويفر، يدوس ويهرس ويقسو ويخزل ويتخلى.

هذا هو المناخ وهذه هي أخلاق الأتوبيسات التي تتزايد كل فيمتو ثانية مصرية، ويتساءل الناس؛ ماذا حدث للمصريين؟، المصريون في عملية انسحاب منذ زمن طويل، حتى أولادهم وأحفادهم يولدوا منسحبين، المصري يهبط من رحم الأم إلى ملعب الانسحاب خضوعا للجينات الوراثية.

المصريون معذورون حين يتخلقوا بأخلاق الأتوبيسات نتيجة هذا المناخ الراكد. وغير معذورين حين رضوا بإدمان الانسحاب لعشرات السنين، وآه لو يصمت المصريون، في الصمت استدعاء للحكمة والفكرة، ولكننا منسحبون ونحن نثرثر، نمتلئ حزنا على سوريا وغزة والسودان ولا نتذكر مصر.أفغانستان التي حزنوا عليها قريبا قد بدأت تصنيع المواتير وتتقدم بسرعة كبيرة.

أعتقد أنه لا يوجد إلا حل واحد: أن ننسى أحلامنا المشروعة ونوقن أن فرصة الحياة قد تم إفسادها وستظل تمتد مساحة الفساد بلا توقف حتى نقرر أننا مسؤولون، ننسى أحلامنا المشروعة ونحيي أحلام النبلاء الجمعية.

ننسى الأيدلوجيات المنتهية الصلاحية.. (الدينية الماركسية الناصرية الليبرالية)، الأيدلوجية وعاء يدنس كل طاهر يوضع فيه، وقد اكتوينا بالأيدلوجيات قرنا كاملا، علينا أن ننظف الشارع ونكف عن تلميح بلاط البيت.

الوَسَخ يأتي من الشارع ولن ينظف البيت حتى يتوقف هذا الوَسخ عن تسربه للبيت، عين الدنيا هي الشارع وليس البيت، لا بد أن نفهم هذا، المحبس الرئيسي في الشارع وليس في البيت.. لا بد أن نفهم هذا.

الدنيا ليست دروس خصوصية وبكالوريوس وعروسة وعربية وموبايل.الدنيا زرع قبل حصاد، وبناء قبل هدم، ويحيا قبل يسقط.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.